ما إن أنهيت رواية أماني ونور قصّة قدر للكاتبة ريتا الخوند، حتّى وجدتني أتذكر رواية
“الحياة في مكان آخر”
للكاتب التشيكي ميلانو كونديرا.
ليس لأوجه الشبه بينهما، بل لأنّ لا أحد يمكنه أن يكتب المرأة إلّا المرأة. وهذا ما فعلته ريتا الخوند خلال ٣٧٧ صفحة من الرومنسية والعذوبة والحب. أعادت بها إليّ مراهقتي أنا الرجل الستيني، وأيقظت فيّ كافّة العلاقات العاطفية التي فشلت فيها، ونجحت في البعض منها بالحصول على قبلة أو عناق، أو رسالة ما زلت أحتفظ بها إلى الآن.
إنّها رواية تصعب قراءتها دفعة واحدة، ليس لطولها، بل لعذوبتها وشاعريتها.
جعلتني كقارىء طفلاً خبًأ حبّة حلواه النادرة، وراح يفكّ عنها غلافها؛ يتذوقها بعينيه وطرف لسانه، ثمّ يعيدها إلى الغلاف. يريدها ألا تنتهي، لكنّها انتهت.
فشكراً لريتا الخوند ولسليمان بختي ولدار نلسن على هذا الإصدار.
تقوم الرواية على إشكالية الحب في شرقنا المدجج بحواجز تقتل العفوية بين الذكورة والأنوثة.
حواجز الانتظار والإهمال والأديان والعائلات، وما تخلفه التربية من حذر وخوف وخشية وتهميش من قبل أحد الطرفين للآخر.
حين لفت انتباهي في مطلع العمل غزل الشخصية الرئيسية (أماني) بذاتها انتابني رد فعل ذكوري رافض لذلك الغزل، لكنّني حين أنهيت العمل أدركت أهميّة أن تحب أماني بهذا الشكل من الاحجام والانجراف في آن.
لأوّل مرّة أقرأ تفاصيل الحياة اليومية على لسان كاتبة أنثى، وأعيش مثل هذه المتعة. إذ تضج الرواية بالإيجابية التي تصر عليها الكاتبة على لسان غالبية شخوص روايتها من نور حبيب المتمسّك بقدسية الحب والأم إلى والدي أماني المؤمنَين بحق القلب في الاختيار والعقل في اتخاذ القرارات، مروراً بقصة زواج والدة نور حبيب المسلمة من والده الماروني رغم كافة الموانع، حتّى غنى صديقة أماني القريبة.
تميزت لغة ريتا الخوند في هذه الرواية بالسلاسة والتماسك والسمو والجمال والشاعرية وعلى مدار فصولها الثلاثة والعشرين.
قدمت لنا نموذجين من الشخصيات الذكورية:
وسيم الامتلاكي المادي الذي يعتبر نفسه فوق المحاسبة والحاجة إلى تبريرات أمام أسئلة الشريك في الحياة.
ونور الشاعري المسؤول عن كلمته ومشاعره ومشاعر شريكه، والمدرك لأهمية الآخر في تناصف كل شيء بغية إنجاح العلاقة.
وسط صراع عاشته أنوثة أماني بين وسيم غير المؤمن بتقديم حاجات الشريك على متطلبات العمل والحياة اليومية، وبين نور الذي أكدت لنا شخصيته أنّ انتصار الحنان على الذكورة عداء وهمي أصّلته البشرية بفكرة الصراع بين ذكورة وأنوثة تتمّمان بعضهما البعض في الحياة.
كانت ريتا الخوند أنثى فوق الورق، أنثى سكنت اللغة فسكنتها، وما عاد بإمكاني كقارىء أن أميّز بينهما، أيّهما الأشد أنوثة، والمحرّك للآخر:
“إن لبعض التعابير دويّاً يتشظى، ويخرق جدار السمع؛ ليجرح الذائقة والإحساس”
و”كلماته مرت بمحاذاة قلبها”
تغوص الرواية بنا في بحر من الانقسامات والتناقضات التي تعيق تقدّمنا في الحب. فقد أرادت أماني الاحتفاظ بنور العاشق في خانة الأصدقاء، وأراد وسيم الاحتفاظ بأماني في خانة الشريكات الممتلكات.
تعرف ريتا الخوند كيف تنسج الروابط الناعمة بين الطبيعة الصامتة والإنسان ككائن شعوري، إذ توقظ وفي لحظات غير متوقعة الكثير من الإحساس بالمحيط وسط كل ما تطرحه من عمق رومنسي وعاطفي. واستطاعت أن توظّف اللغة بشكل أنيق لصالح المعنى والشعور: “هو… اليوم لم يمنحها ضحكة فحسب، إنّما أفرغ بعضاً من ضحكته في مهجتها، وسكب بعضها على ثغرها، وفتح شهيتها بلهفة على البهجة والسرور”
كشفت لي كقارىء أهمية الإيغال في تقدير الذات في الحب، وذكرتني برواية “آلام فارتر” للألماني غوتيه، تلك الرواية التي قرأتها وبكيت كثيراً أيّام الدراسة الثانوية، غير أني ما بكيت في أماني ونور لريتا الخوند، بل عشت الحب.
تحرّضني بعض الروايات النسوية على البحث عن المشاهد الجنسية فيها، فأنا من المهووسين جنسياً فوق الورق، غير أن ريتا الخوند جعلتني في روايتها الخالية من أيّة إثارة جسدية، أطارد الأحاسيس والعذوبة والأمل بحب افتقدته في زحمة الحياة.
أقترح على ريتا الخوند وهي الإذاعية في إحدى محطات الراديو، أن نتبادل الأدوار، وأن تمنحني فرصة استضافتها، فأقوم بدور الإذاعي، وتكون هي الكاتب الضيف، لنتوقف معاً عند كثيرٍ من الأمور التي تشكل أساساً في فلسفة الحب، وفهم العلاقة والشراكة بين اثنين، وعلاقتنا بالعالم والمادة والأشياء والأحياء خلال تجربة حب عاصفة في حياتنا.
شكراً لك ريتا.. استعدت بفضل مخيلتك وقلمك علاقاتٍ تمنّيت لو أني ما غادرتها.
عمر سعيد