المتبقّي من النّص / عمر سعيد
من أكثر العبارات الّتي قرأتها ركاكة عبارة:
“الأدب مرآة الواقع”
إذ لم أرَ بتاتًا نصًا حقيقيًّا يعكس واقعًا، ذلك لأنّ الواقع المعكوس في النّص هو واقع عوالم الكاتب الجوانيّة، لا عوالمه المحيطة من الخارج.
وإلّا أين هي النّصوص الّتي تصف لنا واقع المناطق الّتي لا تؤثّر في ساكنيها حد الكتابة؟!
في رواية داغستان بلدي لرسول حمزتوف نرى تشكل جغرافيا وسيسيولوجيا من مواد محدّدة استخدمها لإعادة تدوير واقعه الجواني، فقدّم لنا منتجًا جديدًا لا يشبه بتاتًا مادّته الأساس، ووحده حمزتوف يعرف آليات التدوير التي منحت النّص واقعه المكتوب.
ولأن اختلاف الجغرافيا لا يؤثّر في اختلاف الواقع المنتخب من قبل الكاتب، نجد واقع خالد الحسيني نفسه يختلف من ألف شمس ساطعة إلى عدّاء الطّائرة الورقيّة.
إن واقع آليف شافاك المكتوب ليس هو واقع هاروكي موراكامي، ولا هو واقع كويلو، ولا واقع عبدالعزيز بركة ساكن.
لا بل إن الواقع نفسه يختلف من كاتب لآخر في الجغرافيا نفسها، فعوالم الطّيب الصالح، ليست تشبه أبدًا عوالم أمير تاج السّر وهما من الطّين نفسه، وقد اغتسلا بماء السودان نفسه، وأكلا الرّجلة نفسها.
لا واقع ولا عوالم خارج ذلك الكائن المعقد الذي اتفق على تسميته الإنسان.
وهذا ما يجعل المتبقي من النص أكثر ممّا ظهر.
إذ ليس من السّهل بتاتًا أن يكتمل النّص فوق الورق، ولا يمكن أن يكتمل بدراسة نقديّة من هنا وأخرى من هناك، وإلّا لم يعود إلينا الكاتب نفسه في اليوم التّالي بنص جديد؟
إن الّذي دفعني لكتابة هذا النّص هو خبر ورد أمس على صفحة الشّاعر العراقي الملهم أجود مجبل في الفيس بوك عن رسالة دكتورا بعنوان
“جماليّات التّشكيل الدّلالي في شعر أجود مجبل”
للباحث الفلسطيني علاء عبيد في
جامعة القرآن وتأصيل العلوم في السّودان.
ليظل السّؤال ما هو المتبقي من النّص؟!
لم يتوقّف أجود مجبل عن التفتيش عنه منذ لحظة مواجهاته الأولى مع النّص، ولن تتوقف الدراسات في شعره، ما دام شعره يصنع عوالم داخلية في القراء لا تشبه عوالمهم الخارجية.
لأنّ عوالم الإنسان ليست ساكنة، ولا تتشكل من تضاريس وعمارة ووجوه وروائح فقط، بل إنّها أضخم وأعظم من ذلك بكثير، وإن كان أبرزها يتأتّى عن طريق اللّغة.
إذا ما هو المتبقي من النّص؟! وأين هو ذلك المتبقّي؟! وكيف يمكن أن نحيط به؟!
وكثير من الأسئلة الّتي لن تنتهي.
ليظلّ المتبقّي من النّص هو المطلوب الوحيد، والمغفل والمسكوت عنه، والمجهول الّذي لم يدركه جلجامش في رحلته، والفالت الوحيد الّذي لن تلحق به كلّ مكشوفات النّصوص السٌابقة واللّاحقة.
عمر سعيد