النّص بين القرية والمدينة/ بقلم الروائي عمر سعيد
لا أدري لم كنت في طفولتي أعتقد أن المدينة أمّ كلّ شيء ومنبعه.
ربّما لأنّ فراغ القرية كان بليدًا، لا يُنهضه إلّا خبرُ الفجأة، كجريمة قتل، أو قرع طبول الأعراس، أو هروب عاشقين اثنين معًا.
وحدها نصوص كتاب القراءة في المدرسة الابتدائيّة والمتوسّطة، كانت تطرد مللي، وترمي بخيالي خارج أسوار ذلك الفراغ البليد، الّذي كنت أنوء تحت ثقله.
كبرت ورحت أتسلل عالم الكتب، قراءة وكتابة.
لكنّني بقيت أحنّ إلى ذلك الكتاب.
ميخائيل نعيمة يدفق نصوصه من شخروب قريته بسكنتا، وجبران خليل جبران يصبّها في شلالات ضيعته بشري، ومن بحرصاف يلقي توفيق يوسف عوّاد برغيفه وقميص الصّوف على أجسادنا وأسطح بيوتنا.
لماذا هذا الحنين؟ وأنا الرّيفي الّذي سكن مدن العالم لأكثر من أربعين عامًا، وقد ظلّت قريتي حبل مشيمتي الّتي أجرّها ورائي، ولم أفكّر وإن لمرّة في قطع ذلك الحبل!
وإلى اليوم لا أذكر نصًّا مدنيّّا قرأته في طفولتي فغزاني، واستوطن وجداني.
ربّما لأنٌ السّياسة في الرّيف، لم تكن تقوم على ترويض البشر.
فقد كنّا قرية بمختار واحد فقط، وبلا بلديّة، وكان مختارنا في الغالب أميًّا.
لكن النّص القرويّ كان في شتائي غزير الأمطار، شديد العواصف، ربيعه يغطي أرضي زهورًا تشتعل تمايلًا، وصيفه يملأ عنبه خوابيّ بنبيذ يكفي لإرواء عطاشى العالم، أما خريفه فيمدني بمؤنة، يغطي افتراشها الأسطح مخيلات مبدعي الأرض دهشة وانبهارًا.
من حسن حظّي أنّي كنت ابن امرأة رعت الماشية. أطلقت ساقي ابنها خلفها في الخلالي والحقول، فرحتُ أطارد الفراش، وأجني ثمار الأشجار البريّة، وأمسح بكفي فوق زهور التّلال، واراكض صغار الأرانب والعصافير والحجال في السّفوح، وألاعب النّمل والدّيدان وصغار السّلاحف وجراء القطط والكلاب.
ولم أكن فتى يمسك بثوب أمّه خوفًا وخشية، وقد سارت أمامه مساء في أزقة مدينة، تدفع أمامها بسطة عرق وتعب وشقاء، لا يكلّف المنشغلين بهمومهم وغرائزهم إلقاء نظرة.
لذا ظلّ النّص الرّيفي هو الحاضر الدّائم في عالمي الجواني، يباهي بألوانه وأصواته كلّ ضجيج شوارع المدينة، وبريق أضوائها، وتراص مبانيها المختنقة بعفونة الزّمن العميق في جدرانها، وبروائح العالم السّفلي فيها، تعوم فوقه أجساد بشر أدمن العيش في الضجيج والظّلام.
ظلت نصوص الرّيف فيّ، تغمس طرفها بحليب الماعز والأبقار، وتفوح فضاءاتها بروائح الزعتر البري والزيزفون، ويشع من ضفافها بريق الشمّس في السّواقي، وتشب فيها نار وقودها من حطب الصّنوبر والكرز والدّراق.
نصوص حوّلتني إلى دمع وحنين.
فكلّما نبت مبنى من حولي، كلّما أشفقت على صغار، وعلى كبار فاتهم أنّ ألف عمارة تدر ألف قنطار من الذّهب، لن تجري ساقية، تنبت الهندباء والقرص عنة والفترية على حوافّها.
ويوجعني أنّي ومنذ الأمس أخشى تصوري الجلوس لقراءة نصوص تهرّ من جدران المباني التّالفة، وتتهافت من جسور هدّها دوران العجلات المطاطيّة فوقها، وقد حاول تلوينها تشابك إنارات الشّرفات وإشارات تقاطع الطّرقات، ومصابيح السّيّارات، لا أنجم سماوات صيف خلا من كل غيم ودخان، وقناديل شتاء كسولة، تشعّ من خلف طاقات جدران حجريّة، وضحك ساهرين أنقياء حول مواقد تشتعل بشوق العبور من القرية إلى المدينة بحثًا عمّا لن يسكت صياح الدّيكة ونباح الكلاب، وخوار الأبقار ونهيق الدّواب، وثغاء القطيع صباحًا في وجدانها، وإن غطاها ألف ألف كتاب في السّياسة والاقتصاد وتطوير الذّات وغيرها.
عمر سعيد