حكي تنور .. البلدي أفضل (بقلم عمر سعيد)
لا شيء يؤرق كعلاقة الإنسان بالسماء.
ولن أقول الأرض..
ولأن الوعي هو الذي يحدد تلك العلاقة..
يجد المبحر في سر تلك العلاقة تفاوتاً ضخماً بين بيئة وأخرى في مسألة ترجمة أو توصيفها..
تعتقد بيئات حكي تنور أن علاقتها بالسماء أصح من علاقة بيئة ما هنا.. أو هناك في مكان ما من العالم.
فتجد أفرادها قد جلسوا، وأمسكوا بمقايس موروثهم ومعتقدهم وماضيهم المقدس، وأخذوا يحاكمون، ويقيمون، وينتقدون موروث ومعتقد بيئة أخرى في مكان ما من العالم؛ مشفقين عليها، متأسفين لحالها..
شاكرين حامدين على ما هم فيه من نعم!
ويعتقد الفرد من بيئتنا أنه يملك الحقيقة التي تسمح له بالسخرية من بيئة تقدس جرذ الفأر، أو البقرة، أو حجراً منحوتاً، أو جداراً لا يتحرك..
وإنما يُقيم كل تلك المحاكمات اعتقاداً منه أن غياب الطاقة، أو الفكر، أو الحياة في تلك المعتقدات البهيمة الغشيمة، يسقط عنها قدسيتها، ويدين العقل المكرس لذلك الاعتقاد، خاصة وأنها ملتصقة بالأرض، ولا يفصلها عنها فاصل.
غير أن هذا الفرد في مجتمع حكي تنور، يقدس معتقدات، ويقوم هو نفسه بممارسات، لا تختلف بتاتاً عن ممارسات تلك البيئات التي يحاكمها..
والتفاوت في النظرة إلى مقدس أو معتقد، لم ينجح حتى اليوم في خلق تفاوتات في السلوك البشري تجاه العنف والغضب والكراهية، والحقد والجريمة والحرب.
فالفأر الإله هناك، والذي هو في الوقت نفسه من الفواسق الواجب قتلها هنا، والبقرة المخلّصة هناك، والتي هي في الوقت نفسه وجبة طعام هنا، والجدار المقدس هناك، والذي هو عندنا ملاذ لتبول الذكور عند الضيق، كل هذه التناقضات تؤكد أن فكرة
“البلدي أفضل وأنظف وأطيب وأكثر صحي”
هي القاعدة الأولى لكل منطلقات التفكير، التي تشكل الخبرات، التي بدورها تنتج المعرفة، التي تشكل الذاكرة التي تؤثث الفكر الفردي والمجتمعي..
ولأن فكر حكي تنور هو الذي لا زال يحركنا منذ قرون.
كان أبي يؤكد لنا أن البيض البلدي أطيب وصحي أكثر.. وكذلك اللحم، والخضار، والرغيف والهواء والتراب وو…
سألت أبي مرة: لماذا برأيك البلدي أطيب؟!
فاسترسل، وحكى، وحكى عن البلدي ومواصفاته..
وبقيت في صمتي أقيم الأمر على قاعدة:
” ذاك حصرم رأيته في حلب”
وبعد أن أخبرني كل شيء عن أفضلية البلدي، سألته: حتى الفَرْج البلدي؟!
فصمت قليلاً، ثم قال: إلا هذا..
قلت له: لماذا ؟!
فراح يشرح لي الفرق بين الفرج البلدي والفرج الأجنبي، مبرراً ميزة الأجنبي بفضل الحرية، والملبس، والوعي، والنظافة، والتطور، و و …
ولأربط هذا بموضوعنا الأساس، أرى أن ما في عقل مجتمع حكي تنور، له أولوية تتناقض مع ما خارجه ..
فقدسية العقل تنفصل في فكر مجتمع حكي تنور عن سواها.
وعوداً على إدانة مقدس الآخر لعدم جدواه، فإننا نمارس طقوسه نفسها التي أسست لتجارب عقلية بلدية، كونت معارف بلدية، أنتجت ذاكرة بلدية، شكلت فكراً بلدياً، يقوم على الدعاء والدعاء ولا شيء أكثر، ثم انتظار المقدس الغيبي، لابداء رأيه، وحل المشكلة. وبالتالي خلق هذا المجتمع مشكلاته الفكرية، ثم عاد يعمل على حلها بأدوات فكرية أصلها في عقلية حكي تنور التي أنتجت تلك المشكلات..
لذا كلما تفكرت في لائحة مطالب الإنسان التي يرفعها بشكل يومي إلى السماء، تخيلت حال الفريق المكلف بفرزها، وتصنيفها، وجدولتها للتنفيذ.
وإن أتت الحلول لا تحمل حلاً، بدا الاثنان راضيين. وأقصد السماء والإنسان.
وتذكرني علاقة الإنسان بالسماء بأمي رحمها الله
فقد كان أبي صاحب نخوة، وكان بيتنا خالياً، “يلعب الفأر فيه” كما يقال.
وكان من عادات بيئتنا في المناسبات، أن يحضر مشاركون من خارج القرية، فيتقاسم رجال القرية أولئك الضيوف..
فيأتي أبي بعد عزاء أو فرح بخمسة إلى ستة رجال، ويصدح من باب البيت المكون من غرفة تراب بأمي:
– يا فاطمة.. حطي لقمة من المتيسر!
وكان المتيسر في بيتنا أيامها لاشيء!
فتدخل أمي مطبخنا الذي كان عبارة عن زاوية خلف باب بلا باب، كل أدواته من الألمينيوم، وتبدأ بطرطقة الطناجر والصحون، وشقلبتها فوق بعضها البعض.
ثم تدخل، وتخرج، وتتشاغل، ولا شيء في المطبخ إلا صوت البابور، وقرقعة المواعين الفارغة..
هذا هو حال علاقة الإنسان بالسماء في مجتمعات حكي التنور.
يوجه الرسائل يومياً، وينهي مهمته بذلك، ثم يجلس ينتظر.
وقد يظل البابور مشتعلاً إلى أن ينفذ كازه.
وقد يغادر الضيوف ومعهم أبي الذي لا يكف عن نخوته غير المجدية.
وقد تظل أمي في عجزها تداري خيبتها، وتقرقع بطناجرها الفارغة التي لن تنتج ما يسد الجوع.
عمر سعيد