رأي حر

حكي تنور .. الأماكن الطاردة (بقلم عمر سعيد)

هل جربت يوماً إجراء صورة رنين مغناطيسي RMI؟
هل جربت مرة النوم في قبر؟!

استبدلت ملابسي بروب أزرق داكن، وصعدت لسان آلة التصوير الذي ثبتوني إليه بأحزمة فوق قدمي ورأسي.
ثم راح اللسان ينزلق بي في جوف الآلة التي راحت تصدر صريراً وعنيناً وجعيراً وطقطقات، حتى بات كل جسدي داخلها، وشعرت معها أني غادرت المكان كلياً، وإلى الأبد.
سقف الآلة المقوس فوق رأسي على بعد عدة أصابع..
وفي أذني تعليمات تردني بالسماعة:
تنفس بهدوء..
لا تتحرك..

فجأة انقبضت أنفاسي. توهمت أن الآلة قد تطبق علي، وتقضمني..
واكتشفت أن لدي فوبيا الأماكن الضيقة..

لم يسكني هذا الوهم أكثر من عدة ثوان، لكنه جعلني أصرخ مضطرباً:
أخرجوني.. سأموت!

أخرج التقني رأسي خارج أنبوب الآلة قليلاً.
هدأ من روعي، ثم أدخلني من جديد..
دام وقت التصوير قرابة سبع وعشرين دقيقة..

كنت برفقة صديق، أثناء زيارتنا لأحد المحافل الماسونية يوم طلبت منه أن يعطيني فكرة عن خطوات تكريس الأخوة
أنزلوني عبر فتحة معدنية إلى سرداب مظلم ضيق، وأعادوا إغلاق الفتحة، ثم سمعتهم وقد دخلت في ظلام دامس، يقفلون الفتحة المعدنية بالمزلاج والقفل، ثم تلاشت الأصوات.
ضبطت أعصابي في البداية. صبرت.. تحملت..
حتى بدأت تتسلل إليّ أوهام؛ جعلتني أفقد أعصابي.. لكنني لم أصرخ، فلا أحد سيسمعني!

رحت أتخيل حدوث طارىء غير متوقع في الخارج، يمنع صديقي من إعادة فتح الطاقة، وقد بقيت في السرداب إلى ما لا نهاية.

ثم تذكرت تجارب الرهبان والأبرياء الذين قضوا داخل كهوف سدت عليهم بالحجارة والنار والدخان..

لم أكن أعرف قبل هاتين التجربتين معنى الأماكن الطاردة، حتى تناقشت قبل أيام مع صديقة حول مشكلة محددة، فذكرت على مسمعى عبارة الأماكن الطاردة.

فاستيقظت على هذا المصطلح، ورحت أفتش في ذاكرتي عن كل الأماكن الطاردة التي لفظتني في حياتي..

اكتشفت أن المكان الطارد ليس مجرد جغرافيا قاسية، مظلمة أو مخيفة..
بل قد يكون جغرافيا عدائية داخلية فينا، أحدثتها خبراتنا السلبية التي ملئنا بها رغماً عنا.

فكم من جلسة، شعرنا خلالها بحاجة للصراخ بغية إسكات الجميع عن كلام تافه؟!

وكم من لقاء، وددنا أن نغادره، وقد خرجنا نجري، ونلتفت خلفنا، لئلا يلحق بنا من نفر منهم؟!

وكم من شخص، جمعتنا به الصدفة، وشكرنا الله والكون على لحظة انتهاء الكلام معه؟!
وكم من كتاب فتحناه لنقراه، ثم أغلقناه، ثم فتحناه، ثم أغلقناه، ثم فتحناه.. حتى أتممناه، ونحن نتنفس ال أف، عندما قذفنا به بعيداً.

فالبيئة الطاردة هي أشد الجغرافيا وعورة، تجعلك – ولوعيك – تفتش عن أول ثقب، يسمح لك بحمل أشيائك والخروج..

فالفوضى، والرتابة، والجهل، والركود، والانغلاق، والتدين القاسي، والحروب، والصراعات، والجدل، والاشتغال بالتفاهات، ورفض الآخر، والتجاهل، وو..
كلها أماكن طاردة، وليست مفاهيم، فنحن نقيم في حالات جوانية، لا في أماكن..
وإلا لم الانتحار، والقتل، والطلاق، والمقاطعات، والجفاوات، والبلوكات الحديثة في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تشبه إغلاق الحدود في الجغرافيا الأخلاقية والسياسية؟

جميعها تطردك منها بقرار تتخذه بنفسك، وقد أوصلتك إلى خيارين لا ثالث لهما، الاستسلام والتحول إلى حالة طاردة، أو الفرار أبعد مما يمكنها من ملاحقتك..

ورحم الله القائل “من عاشر القوم أربعين يوم!”

وأبشع الأماكن الطاردة تلك التي تبتلعك رغماً عنك، وقد تجنبتها زمناً.. إلى أن تألفها، وتتماهى معها..
وإن كنت لا تصدقني، فاسأل سجيناً!
ستجده وإن شكا لك، يبكي، وينوح، لأن السجن الذي لفظه، بدأ يطرد منه مَنْ حوله.

وها أنا استيقظ مرعوباً لمجرد شعوري أني مكان قد يهجره الآخرون.

نسيت أن أقول: وأنا عائد من عملي مساء بصحبة صديق، بلغنا كلباً بصلي اللون، بدأ ينبح.

قلت لصديقي: هذا الكلب يذكرني بالأماكن الطاردة، فكلما التقيته، تكون عيناه الحمراوان شبه مغمضة، وينظر إلي نظرة تعال..

ضحك صديقي، ثم انفجر مقهقهاً عندما حاذينا الكلب، إذ رأى عينيه كما وصفتها، وقد ألقى علينا بتلك النظرة المستحقرة..

قال صديقي: حتى الكلاب باتت لا تحتمل مرآنا، وتعاملنا برد فعل طارد.
عمر سعيد

Show More

Related Articles

Back to top button