حكي تنور (بقلم عمر سعيد)
#حكي_تنور
لم تكن نار التنور مخصص للخبز وحده أيام الشتاء.
فأمهات الأسر الفقيرة كن يأتين قبل انتهاء الخبز بقليل، وقد حمل بعضهن دلاء معدنية، والبعض الآخر طناجر قديمة.
يجلسن قرب الباب، إن ضاق المكان في الداخل.
ينتظرن فراغ الخبازة من عملها، وإخلائها المكان، ليملأن الدلاء والقدور بالرماد والجمار؛ التي يستخرجنها من قعر التنور بالرفش.
ثم يعدن بها إلى بيوتهن رحمة بصغارهن، الذين كانوا ينتظورونهن تحت اللحف والأغطية اتقاءً لبرد الشتاء.
ولكم خلقت تلك الجمار من مشاحنات وخلافات؛ أدت إلى تورط الرجال فيها أحياناً.
شجارات تفصح عن عمق الفقر الذي طال العقول، والمشاعر، والألفظ، والسلوكيات.
كنا نحن الصغار، نقف، نتفرج، ونتعلم فن الشتم والتقريع وشرشحة الذات.
ولم يكن أحد من الآباء أو الكبار، يحاول التدخل، أو ردعنا عن البقاء وسط ما يثار من مشاكل.
لذلك لم تغادر تنانير القرية أحداً منا؛ إلا من رحم ربي.
كنت أعتقد أنه من الحكمة والوعي؛ أن يقصد أهل قريتي مدناً مجاورة للتسوق، ولو لأجل حاجيات بسيطة، كانت تتوفر في دكاكين القرية.
لكني عندما كبرت، فهمت.. وعرفت أنها وجه من أوجه ادعاء الشطارة لدى أبناء القرى.
إذ لم يكن أكثرهم يقطع تلك المسافات الطويلة، ويتكبد عناءها؛ إلا بحثاً عن التوفير التافه، أو تعبيراً عن كراهيتنا لبعضنا، نحن أبناء القرى.
وبقيت أتمعن في الأمر، حتى اكتشفت أن تنور القرية أوسع مما كنت أعتقد.
لذا بقينا جميعاً؛ نعلك المبررات نفسها، وكأننا لازلنا نقبع تحت أسقف تلك التنانير.
فصاحب المطعم عندنا، لا يأكل من طعام يعده في مطعمه، على الرغم من كل الأزقة التي تملؤها منشوراته الدعائية!
ومدير المدرسة ومعلمها لا يعلمان أولادهما في مدرسة يعملان فيها، بحجة أن الأبن إن أخذ وجهاً تصعب تربيته!
وصاحب المشفى لا يتعالج في مشفاه.
كما أننا نصنع ملابس، لا نلبسها، بل نسوقها لنبيعها لمن هم أفقر منا.
ونحن لا نقرأ ما نكتب، بل نتسابق على عناوين الكتب والمقالات الغربية.
نحن نصنع أحذية نخجل من انتعالها، رغم أن البائع منا؛ يمزق أوتاره الصوتية في التسويق لها خلال أيام الأسواق الشعبية.
أعرف صاحب معمل شوكولا، لا يُضَيِّف منتوجات معمله خلال المناسبات في بيته، بل يلجأ إلى أصناف أكثر شهرة وأغلى سعراً.
هل سمعتم عن صاحب مصنع بلاط لم يضع قطعة واحدة من بلاط مصنعه في أرض بيته، بل جلبها من أفخر أنواع المنتجات الطليانية؟!
ولكم ظل السؤال عالقاً:
ترى ما هو مستقبل المجتمعات التي حالها مثل حالنا؟!
كيف لجماعة لا تعرف حب الوطن إلا في خطبها وأغانيها ومقالات جرائدها، أن تبني وطناً؟!
من سيقنع مثل هذه الجماعة بالكف عن الادعاء؟!
فنحن جماعات تتحدث لساعات عن فوائد خبز التنور، ثم تعود لتضع على موائدها أرغفة الأفران الأتوماتيكة.
جماعات يتحدث فيها المدير أو المعلم بتفاخر لساعات عن تفانيه في عمله في مدرسة رسمية، لكنه يزين جدران صالونه بشهادات أبنائه من خريجي المدارس الخاصة.
نحن وعلى الدوام نمشي في اتجاه معاكس لما نقول.
نحن مجتمعات التنور، الذي ترفض ناره أن تخمد فينا، على الرغم من كل تلك المساعي الحثيثة لتأسيس خطاب يتناسب مع مقاهي ستار بوكس ودكتور كيف، ولمّات مكدونلز وبيتزا هات.
مجتمعات تسعى الأسرة فيها لشراء أحدث الأجهزة الذكية لابنها، لكنها إن بكى خوفاً أثناء استخدامها، تهرع لمعالجته بطاسة الرعبة.
تعبىء ثلاجاتها بأرباع محتويات الصيدلية من الأدوية، وما أن يمرض طفلها، حتى تسارع إلى سكب رصاصة، أو تلاوة رقية.
كل ذلك مرده إلى أن حكي التنور لا زال يشكل منصة رئيسة لكل نتاجاتنا الثقافية والفكرية والمعرفية.
ولا زال أجمل قصصنا ذلك الذي لا نشك بكذبه، وعدم جدواه، غير أننا نستعذب الغوص فيه.
#عمر_سعيد