#حكي_تنور
جسد المرأة ليس ملكاً لها.
لم يستطع التنور أن يصبح مؤسسة، رغم كل المفاهيم التي ثبتته كملك عام، وإن أقيم فوق ملك خاص.
لذلك بقي ككل الأملاك العامة، التي يهمل هذا الشرق صيانتها، أو الالتفات إليها مهما اشتدت حاجتها لذلك.
كان النساء يخبزن تحت سقفه الذي يدلف عليهم أمطار الشتاء الممزوجة بالطين الأصفر.
لكني لا زلت أذكر ذلك الكهل الذي كان يعتلي سطح التنور أيام الشتاء، إذا دخلت زوجته لتخبز.
وقد ارتدى معطفه الصوفي القديم، ولف رأسه بالسلوك الأسود (الشماغ)، ليظل يحدل السقف بالمحدلة إلى أن تنتهي زوجته من خبزتها.
وهذا حال كل مجتمعات حكي التنور مع الأماكن العامة، التي لم تستطع أن تنشىء علاقة صحيحة مع التنور كتلك العلاقة التي نشأت بفعل القانون بين المكان العام والأنسان في الغرب.
فالطرقات ومباني الوزارات والمؤسسات المدنية والمدارس والساحات والملاعب المشتركة والعيون وغيرها، كلها تعيش ذلك الاستهلاك والاهمال الذي يظهر على شكل رمي نفايات وتخريب وشعور عدائي واختلاسات وسرقة محتويات.
فإلى اليوم لا أحد يعلم أين ذهبت حجارة تلك التنانير التي كانت في القرية
عندما وصلت إنارة الشارع إلى قريتنا، لمحت مساء يوم شاباً عشرينياً يحطم بالحجارة إنارة الشارع.
سألته عن السبب، فنهرني!
أخبرت أبي بما حصل، وسألته عن دوافع ذلك الشاب!
ألقى أبي برأسه إلى الجدار، وقال موارباً:
– دعك منه هذا بلا أخلاق.
غير أني عدت؛ لألمح ليلاً الشاب نفسه يدخل التنور، وبعد دقائق لحق به شخص آخر، قنّع وجهه، وأخفى جسده تحت معطف طويل، غير أن ما كان ينتعله بقدمه، لم يستطع أن يخفي جنسه كامرأة.
عدت إلى أبي أسأله عن سر لقائهما ليلاً هناك.
وكالعادة وارب أبي رده، وطالبني بتجاهل ما رأيت، لأن ذلك قد يسيء إلى سمعتنا كأسرة بحجة أننا نشيع الأخبار الكاذبة عن الناس، وبيتنا من زجاج.
ثم نهرني, عندما اعترضت على أن بيتنا من زجاج، وقد كان من اسمنت.
لكن كنت أيام الدراسة، إن لم أفهم معلومة، أرفع اصبعي وأصرح أني لم أفهم.
ولا أتوب عن تكرار التصريح، مهما تكثفت زخات الإهانات التي كان يرشقني بها المدرسون، وقد اتهموني بالتشاغل والغباء والفوضى.
وأذكر أني قد تعرضت بسبب تلك التصريحات للضرب عدة مرات.
وكان أكثر من معي في الصف، يلتزمون هز الرأس بالموافقة إذا سأل المعلم : فهمتوا؟!
ثم تأتي نتائج الامتحانات وقد رسب الكثيرون من هزيزة الرؤوس، وقد حققتُ علامات مرتفعة.
ذلك التذاكي من زملاء الدراسة، كنت أقابله بتغاب، وهذا ما دفعني إلى قراءة أول كتاب سياسي في الصف الثاني متوسط، وقد كان حوالي ٨٠٠ صفحة، وكان يشرح الأيديلوجية، وعلى الرغم من أني لم أفهم منه شيئاً، غير أني اتممته حتى آخر كلمة.
ومع الأسف أذكر أني سرقته، ومن هنا اكتسبت عادة سرقة الكتب، ولا زلت أتشبث بها.
واصلت القراءة لأفهم الكثير مما أثاره في رأسي مجتمع التنور.
وواصل زملائي هز الرأس وادعاء الفهم.
ولأن الواقع يقضي بأفضلية هزيز الرأس على أغبياء الاستيعاب أمثالي، اختصر زملائي الكثير لبلوغ ما كنت قد أطلت الطريق لأبلغه.
ولأن السؤال الذي لازمني طويلاً كان:
ما هي أسباب التقاء ذلك الشاب بتلك الفتاة ليلاً داخل التنور، بعد أن حطم إنارة الشارع؟!
أصريت على القراءة والقراءة، لأكتشف الإجابة مبكراً.
فقد علمتني الكتب أن المرأة التي لا تملك جسدها وحق التصرف به ليست حرة.
وأن المجتمعات التي تحتكر أجساد النساء، لن تبلغ التطور، ولو ناضلت لأجل ذلك ألف ألف عام.
وأن الأسرة التي تخاف على جسد الفتاة أكثر من عقلها أسرة تافهة.
لقد اكتشفت أن أبا يقرر مصير جسد ابنته بدلا منها أب أسير عاجز.
وأن امرأة يغتصبها زوجها أثناء شعورها بالهزيمة في معركتها الجسدية لأجل من تحب جارية.
وأن مجتمعات تحرم على النساء حرية التصرف بجسدها مجتمعات استعباد.
وإن حصل ذلك تحت ملاءة الدين والعادات والقيم الواهية.
ذلك لأن أقسى ما أذل هذا الشرق هو إهماله تلك القاعدة الإنسانية بامتياز، والتي قالها الخليفة العادل عمر بن الخطاب:
” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتم أحراراً ! ”
و لإن أعظم دوافع الوعي هي خشية الغباء.
وأشد آفات الجهل فتكاً هي الادعاء.
والمصيبة الكبرى إذا كان الادعاء هوية اجتماعية.
ولأن من كانوا معي من هزيزة رؤوس قد كبروا وما تخلوا عن عادتهم في هز الرأس بالموافقة، ولأنهم قد صاروا عماد المجتمع، ولأنهم الأكثرية التي تقرر تنتخب؛ لا زالت المرأة لا تملك جسدها، ولا تملك بيتها، ولا تملك صوتها، ولا تملك وطنها.
ولأن الشيء الوحيد الذي تملكه المرأة هو فقط وفقط حكي التنور؛ لا زال مجتمعنا يؤمن بأن أعظم المراجع والموسوعات هو حكي التنور، وإن بلغ عدد المؤلفات العقلية العلمية مليارات العناوين.
عمر سعيد
Back to top button