حكي تنور .. (بقلم عمر سعيد)
حكي تنور
حقيقة الجان في تنورنا القروي.
لم أكن لأقتنع بالجان ولا بسكنى الجان في التنور، على الرغم من دعم شيخ القرية أيامها لتلك الحكايا، لأني رأيت بعيني الجن وهو يدخل التنور.
لم أكن قد تجاوزت الثامنة من عمري، يوم شارطني أبي ذات ليلة على ربع ليرة في حال تجرأت على الذهاب إلى حانوت الساحة، لأحضر له علبة (تبغ فلت) تلك التي لا زلت أذكر شكلها الصندوقي بطبعته التي كانت بالخط الأحمر، ترفع بالتحذير عن الشركة المنتجة مسؤولية إصابة المدخنين بالسرطان.
وأستطيع القول أني منذ طفولتي كنت قليل الخوف، وهذا ما وطد علاقتي بالغربة، والإنسلاخ والاستقلال.
أثناء عودتي من الحانوت الذي وجدته مغلقاً، الأمر الذي اضطرني لطرق الباب على البائع الذي كان حانوته في زاوية من غرفته الوحيدة – التي كانت هي المطبخ وغرفة النوم والمعيشة – كانت السماء تمطر بغزارة وقد شارف الليل على انتصافه.
لمحت من البعيد شبحاً أبيض يجري باتجاه التنور من جهة الشرق.
التصقت بالجدار، وقد استفاقت مخيلتي على كافة قصص السهيرة في بيتنا حول الجان والشتاء والليل الذي ابتلع كثيرين، وها أنا في قلب التجربة.
دخل الشبح التنور، وما هي إلا لحظات حتى أخذ ضوء يشق الظلمة بلمعاته المتكررة عند باب التنور.
وبينما أنا في صراع مع نفسي حول جدوى الجري، وبين البحث عن خطة للتواري، وقد بللني المطر، والطامة الكبرى ستحل عليّ إذا بلل المطر تبغ أبي، إذ بشبح أبيض آخر، يخرج من أحد البيوت المجاورة، ويتجه صوب التنور، وقد لفت انتباهي ميله إلى القصر.
اختفى الجنان في التنور، ورحت أتقدم بحذر قاتل، مشجعاً نفسي على التسلل، فلعلهما قد ناما.
اقتربت من زاوية التنور، وأنا أكاد لا أتنفس، فإذ بي أسمع صوتاً أنثوياً، يليه آخر ذكوري، وسط انفاس تتقطع محمومة.
وبهذ الإشارة قتلت في داخلي كل الخوف من الجن، لأقع على حقيقة تلك الأقاصيص من قبل العشاق وفتيان الليل واللصوص، الذين روجوا لها للاختلاء داخل تلك الأمكن بعيداً عن ظنون الناس بكل أمان وراحة بال.
غير أني ما عرفت ترجمة معاني الأصوات التي سمعتها ليلتها، إلا في سن البلوغ، بعد أن صارت التنانير تجتذبني إليها، إذا انتصف الليل.
لأكتشف معها أن الحقائق لا تكتشف من قبل القابعين في بيوتهم مع مخاوفهم، وأفكارهم الجامدة، وعقولهم الضيقة، ومعتقداتهم البالية.
إذ لا بد لاكتشتاف الحقائق من جرأة قد تكون مكلفة في الغالب.
جرأة تتجاوز المغامرة.
المغامرة التي مكنت كولومبس من اكتشاف أمريكا.
المغامرة التي دفعت ابن النفيس إلى نبش القبور، لتشريح جثثها واكتشاف الدورة الدموية.
تلك الجرأة التي حرمها الناس في المنطقة على أنفسهم، مرة بحجة الدين، وأخرى بحجة الأعراف، وغيرها بحجة القبيلة والعائلة والعشيرة.
في البرازيل مثلا تقيم الاسرة احتفالاً للفتاة في حيضها الأول.
يكون الاحتفال بمثابة إعلان عن الفرح بأهلية هذا الكون الصغير (الفتاة) لانتاج الحياة.
في الوقت الذي كنت أسمع فيه من بيئتي الإدانات, والانتقادات المقبحة لمثل هذا الاستقبال للدورة الشهرية عند الفتاة.
كنت أعمل في مدرسة إسلامية يديرها متمشيخ متدين مقرف بشكوكه وظنونه..
لمحت فتاة ترتكن زاوية مخفية من المدرسة، وتبكي.
تحدثت إليها، وطلبت منها أن ترافقني إلى المكتب لنكمل حديثنا، فرفضت، وبدت منهارة.
أدركت عندها معنى إصرارها على الاختفاء، لذا أرسلت إليها معلمة.
لم تكن لتعاني تلك الطالبة، لولا إدانات مجتمعها للدورة الشهرية.
فالدين يدينها ويعتبرها نجاسة، والمجتمع يدينها بتكتمه عليها، وتحفظه عن الخوض فيها.
والأسرة تدينها، إذ تفرض على الفتاة تجنب إشهار إفطارها في رمضان بحجة الحياة.
والفتاة نفسها تدين دورتها إن دخلت محلاً لشراء الفوط الصحية، حين تحجم عن طلبها، إذا كان البائع ذكراً.
فما هي الدورة الشهرية؟
هي إشعار بيولوجي طبيعي على أن الفتاة باتت مؤهلة للحمل والأمومة، وليس للعلاقة الجنسية.
ولنتخيل معاناتها واسرتها فيما لو لم تحصل لها تلك النعمة.
غير أن المجتمع، وبفعل حكي التنور، يحول النعم إلى نقم، والعكس يفعله أيضاً.
فبدل أن تهيأ الفتاة للدورة الشهرية، وتمنح مشاعر الحب والطمأنة والرضى، تحاصر بكل المناخات السلبية، التي تطبع لاوعيها بالخشية، والحذر، والقرف، والتجنب، والانقباض، والتكتم، الأمر الذي يسبب للكثير من الفتياة حتى الأمهات منهن آلام الحيض المزعجة.
وما كانت كل تلك الآلام والعوارض، لتكون، لولا حكي التنور الذي لا زالت ناره مشتعلة إلى يومنا هذا، ودخانه متصاعد في لاوعي الكثير من أبناء مجتمعاتنا المصرة على قدسية جهلها بما تجهل.
فتتبنى وتلوك ما تسمع دون نقاش أو قياس أو حكم.
وتفرضه بسلطة الغباء والكثرة، حتى يصبح حكماً.
ولطالما تساءلت عن عصرنة تنور قريتنا، ونقل طقوسه إلى صالونات الطبقة المخملية، التي لم تنفق على التغير في عقليتها ١٪ من ذاك الذي انفقته على التغير في شكلها ومظهرها ومقتنياتها التي أفرغتها أكثر مما هي فارغة.
عمر سعيد