#حكي_تنور (بقلم عمر سعيد)
#حكي_تنور
كنت أجلس إلى جانب المرحوم جدي، وكان يقص علي حكاياه مع تنانير القرية؛ رائحة خبزها، سحن الصبايا العالقات وجوههن في ذاكرته، الجان الذي صنعته مخيلاتهم في ليالي البرد الحالكة، والذي أخاف البعض منهم، ففضل المبيت في التنور على مواجهة خوفه.
لذلك سنكتشف جميعاً كم أن حكي التنور متجذر فينا
تخيلوا معي أحبتي القراء :
أني أسكن بيتاً منعزلاً عن القرى، في غابة لا يعرف أحد الطريق إليه.
وتخيلوا أني علقت في جدار غرفة في بيتي إطاراً بلا صورة.
وأني كلما أنجبت طفلاً، أخبرته أن هذا الإطار كانت فيه صورة لجده الأكبر.
وأن جده كان وكان وكان وكان .. .
وتخيلوني في كل صباح وكل مساء أركع أمام الإطار صامتاً، أمارس حركات، أقدس فيها ذاك الجد، وأذرف الدمع على غياب صورته خشوعاً.
وأطلب من ذاك الإطار أن تطل منه علينا صورة الجد التي اختفت بسبب ذنوبي المتراكة، ذات لحظة.
ويكبر أبنائي على ذلك السلوك وتلك الفكرة.
ثم أبدأ بعد يأسي باتهامهم جميعاً بالتقصير، وأحملهم مسؤولية تأخر إطلالة صورة الجد في الإطار، وأعلل ذلك بكثرة ذنوبهم تجاه الصورة والإطار، وأشكك في إيمانهم بعودة الصورة، وفي خشوعهم خلال الطقوس.
ثم تخيلوا ما سينتج عن ممارساتي في الأبناء؟
حتما، ستنتج عنها عقد متفاوتة عند أبنائي.
فقد ينطوي أحدهم على نفسه، زاهداً في حياته.
وقد يبدأ أحدهم بكيل التهم إلى إخوته، واتهامهم بالكفر بإطار صورة جدهم.
وقد يتفرغ أحدهم إلى البحث عن طريقة يستغل فيها أخوته ويأسهم.
وتخيلوا معي أنه وفجأة، تمكن أحد أبنائي من الهرب من المنزل، وقد بلغ قرية مجاورة، وراح يتخفى بين بيوتها، وأثناء استراق النظر من الشبابيك، يرى صوراً معلقة إلى جدران البيوت، بعضها فيها صور أجداد، وبعضها صور أطفال، وبعضها الآخر صور حيوانات، وأخرى صور غابات، وغيرها.
ثم يتمكن ذلك الابن من التنبه إلى أن إحدى الصور في إطارها، تشبه رجلاً يجلس تحتها يقرأ ويدخن، وينظر إلى صندوق أسود ضوئي صغير أثناء بثه صورة لشخص، تشبه صورة معلقة في الجدار.
وخمنوا ما الذي سيحصل داخل ذلك الابن في تلك اللحظات؟!
ثم تخيلوا معي أن الابن قد عاد إلى البيت يقص ما رآه على إخوته.
وتخيلوا مواقف إخوته الاستنكارية من فعلة أخيهم، ومن تكذيب الحقيقة التي عاد بها، والتهم التي ستلصق به من تآمر، وعمالة، وتضليل، ووو.
إن صناعة الأوهام لا تنتج إلا أجيالاً تشبه أبناء تلك الأسرة التي لم تخرج من بيتها، واعتبرت أباها مصدر كل حق وفضيلة ونور، وكذبت كل ما لا يتفق مع مقاييس ذلك الأب.
وأجيالنا في المنطقة ضحايا، تلك الأوهام التي لم يخجل أباؤنا في صناعتها لنا، وإقناعنا بها، وعلى مدى قرون.
وأجيال اليوم هي ذلك الابن الذي فر إلى تلك القرية، والتي هي عالم التواصل الذي نحن داخله، والتي ولدت فيه كل تلك التساؤلات والتغيرات والشكوك، ووضعته أمام أقسى المواجهات.
لتتكشف الانتصارات الوهمية، والهزائم البشعة، والتزوير الوقح للتاريخ.
نحن في زمن ما عاد يحتمل العالم فيه إطالة العيش داخل تنور جدي، وإعادة إنتاج القصص نفسها.
مهما بلغت حالة ذلك التنور في وجدان وذاكرة أجدادنا وذاكرتنا عبر مئات السنين.
فحركة الزمن أمامية، ولم تسجل وعبر كل ما قطعته لحظة واحدة سارت فيها عكس سيرها التقدمي.
وما عمليات التذكر إلا أدوات تؤكد اتجاه حركة الزمن الأمامية
إن رائحة رغيف التنور التي في ذاكرة جدي، تحتاج العودة بالزمن إلى الوراء، وهذا مستحيل.
ومهما حدثنا الأجيال عن تلك الرائحة، ستكون النتائج مخيبة إذا تمكنا من إعادة انتاج رغيف تنور بوسائل حديثة.
فالزمن عامل أساسي بكل التفاصيل التي تكّون أي فترة منه، وتدلل عليها.
وللعودة إلى تنور جدي، نحتاج إلى استعادة طرق قرانا الترابية، وشحة المياه، وبيوتنا الطينية، التي سكنها الأجداد بالتشارك مع حيواناتهم، والقمل إلى شعورنا وأجسادنا، والأعمال اليدوية الشاقة، وكثير من الأشياء التي يحتمل الوجدان المخيلة إقامتها فينا، دون أن نحتمل نحن أو أبناءنا الإقامة فيها، فيما لو أعادتنا حركة الزمن إلى الوراء، وهذا حتما لن يكون.
وهذا كله يذكرني بصورة ليلى العامرية التي أحبها قيس بن الملوح، وقد انهالت عليها إثر انتشارها في مواقع التواصل الاجتماعي آلاف التعليقات التي تستغرب قصائد قيس فيها.
أخيراً إن الحكمة والعقل والمنطق جميعها تشترط تأثيث كل مرحلة من مراحل حياة البشرية بفكر، يتناسب معها، بحيث يسمح بانسيابية تتابع التطور الحتمي في الأجيال فكراً وسلوكاً ومكتسبات.
عمر سعيد