الإيثار والاستئثار .. ديغول/مدرسة الرؤساء (بقلم ع. يعرب صخر)
الإيثار هو من آثر غيره وضحى بما يملك لأجله. حِيْنَ يَتَحَلَّى الإِنْسَانُ بمَلَكَةِالإِيْثَارِ الْخَيِّرَةِ الْمَوْسُوْمَةِ بِالْبَذْلِ والعطاء والمتسمة بالزهد، لا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ بل تمْتَدُّ عَلَى كُلِّ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَصِلُ إِلى أَقْصَى مَدَاهَا بِتَقْدِيْمِ حَيَاتِهِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ وَالْوَطَن.
“الاسْتِئْثَارِ” (الأثرة) هي “شَرَاهَةِ التَّمَلُّكِ” ونزعة حب النفس، وتفضيلها على الآخرين، تَكْشِفُ عَنْ شِدِّةِ الْحِرْصِ عَلَى أَخْذِ النَّصِيْبِ الأَكْبَرِ فِيْ كُلِّ مَا يَخْضَعُ لإِرَادَة المستأثر الَّتِيْ قَدْ تَصِلُ إِلَى حَدِّ الاسْتِبْدَاد.
فَبَيْنَمَا يَكُوْنُ “الْمُؤْثِرُ” عَلَى مَوْعِدٍ مَعَ شَعْبِهِ، وَكُلِّ مَنْ حَوْلَهُ فِي مَيَادِيْنِ الْعَطَاءِ لِيَجْزِلَ بِالبَذْلِ، وَالتَّضْحِيَةِ حَدَّ الْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ مَبَادِئِهِ، وَكَرَامَةِ شَعْبِه يَقِفُ “الْمُسْتَأْثِرُ” مُنْكَفِأً عَلَى ذَاتِهِ، وَمُحْتَكِراً كُلَّ مَا يَقَعُ تَحْتَ طَائِلَتِه..
الَّذِيْنَ سَطَّرُوْا مَلاحِمَ البُطُوْلَةِ عَلَى طُوْلِ التَّارِيْخِ، وَأَنْقَذُوْا أُمَمَهُم مِنَ الْمِحَنِ فِي أَجْوَاءِ التَّحَدِّيَاتِ هُمْ أُوْلَئِكَ الأَفْذَاذُ الَّذِيْنَ تَوَشَّحَتْ مَسِيْرَتُهُم بـ”الإِيْثَار…ومنهم شارل ديغول الرئيس الفرنسي، محرر فرنسا وصانع عودتها إلى نادي الأمم النووية العظمى ومقعدها الدائم في مجلس الأمن. قامت بوجهه انتفاضة الشبان الفرنسيين بسبب ضائقة إقتصاديةواجتماعية، أيار ١٩٦٨، قابلها تظاهرة مؤيدة له، فما كان منه إلا أن فصل بينهما باستفتاء جاءت نتيجته ضده بنسبة ٥٢%، فانبرى فورا” لتقديم استقالته، زاهدا” بنفسه فداء شعبه، ومؤسسا” لدروس وعبر للتاريخ ومدرسة” يتعلم منها الرؤساء في الزهد والإيثار.
يقابلهم في التاريخ الماضي والحديث والمعاصر، رؤساء استأثروا بما وكلوا به فاستملكوا واستأثروا، سجلاتهم زاخرة بالهزيمة والعار والشنار والدمار، مسيرتهم حافلة بالفشل وعابقة بالتردي والفساد، دأبهم استباحة كل وسيلة وتحليل كل محرم كسبيل للسلطة، وديدنهم الظلم والتسلط، برامجهم السرقة ونهجهم الشعبوية الرخيصة والزيف وتحوير الحقائق، وأكبر جهدهم افراغ جيوب الشعوب لملء خزائن الزبانية، وامتصاص دماء الابرياء،…منهم من أتى بانقلاب، ومنهم من تقلد بتسوية وصفقة، بعضهم جاء خلاف الطبيعة والقوانين والأعراف، وغيرهم من أتى على ظهر الخداع…وتملكوا واستأثروا وتشبثوا، وإن بلغوا خريف العمر أورثوا ليدوم الاستئثار في نسلهم الفريد….فزهدوا بشعوبهم وأوطانهم فداء أنفسهم.
آه، لو ان لدينا قليلا” من “ديغول” وبعضا” من “فؤاد شهاب”…لانتهت كل أزماتنا في يومين….قليل من الزهد والإيثار، وعين ترى وأذن تسمع من المستأثرين، لا بعين غيرهم وأذن سواهم، لهدير ثورة شعب مؤثر بسط لهم أثرا”، قبل أن يصبحوا غبارا” في الأثير ، أو يصير الوطن أثرا” بعد عين.
العميد الركن المتقاعد يعرب صخر