لماذا أحببت يسوع ؟! (بقلم عمر سعيد)
بدات رحلة عشقي لخطين متقاطعين – لم أكن أعلم عن رمزيتهما معا أكثر من غيري – باكراً جداً ..
كنت صغيراً ، وكان تعاليه فوق قبب الكنائس يغريني ، فأظل أنظر إليه ، وأطيل ، دون أن أفقد انشداهي بهذين الخطين الداكنين في فضاء نهاري ، لا تحده من ورائه حدود ..
ذات ربيع ، قدمت لي أمي صليباً .. كانت قد عثرت عليه في أحد بساتين التفاح في عنجر ، أثناء جمع الحطب ( الوقد كما نسميه في لهجتنا ) نجمعه في موسم الشحالة .
كان سلسالاً فضياً غليظاً ، يحمل صليباً بحجم اصبعي طفل بعمري ايام كنت في عقدي الأول .
نظفته من التراب ، وغسلته بالماء وملح الليمون ، ونشفته من البلل ، وعلقته إلى صدري ..
بقي في عنقي سنوات طوال ، حتى فقدته في بغداد بعد أن تركته في عنق فتاة أحببتها ، لكني خسرتها ، يوم ابتلعتها الحرب ..
نسيتها ، ولم أنس ذلك الصليب ..
فقد ظل ينتصب في روحي ، لا فوق الجبال و قبب الكنائس فقط ..
عدت من بغداد ، وكأي لبناني لا ظهر لي ، تم توقيفي عند مخابرات الاحتلال السوري ..
واجتنابا للتشتت عن موضوعنا ، سأهمل تفاصيل التوقيف ..
بلغت في السجن يأسا وحزنا لا يطاقان ، بعد أن جثت الهزائم السوداء فوق صدري ثقيلة ، فأسرتي المعدومة ، والمعزولة سياسياً ، لكرهها للمحتل ، وشهادتي من جامعة بغداد ، وسنوات التعب والعمل المضني في طلبها ، كل هذا أشعرني أني وحيدٌ في جوف حوت يقبع مكانه، و لا يتحرك..
ذات ليل خريفي ، وفي زنزانة معتمة تتسع لي ، ولدمعي وعجزي وللظلام فقط ، تكورت على جسدي ودخلت في رجاء لم أجد لي ملجأ إلاه ..
أعرف أني بدأت رسائل الرجاء إلى يسوع ، وأمه التي حرمَتُها النومَ بتوسلاتي ليلتها ..
لم أكن أحفظ دعاء أو صلاة أتلوها .. لذا ظللت أتوسل هامسا باسميهما فقط ، وأسح دمعي على كفي التي توسدتها فوق باطون أرض الزنزانة ؛ حتى غفوت ، ونمت .. أجل نمت .
أذكر اني كنت طفلا يغفو في ملفته الدافئة ، لا بل في حضن أمه ، وأكثر من ذلك في عمق رحمها الآمن ..
أفقت على نور بدد ظلام الزنزانة ، وفتح عيني إلى أقصى اتساعهما ، وملأ صدري بسكينة اشتهي طعمها إلى الآن ..
أفقت على عالم جواني غير الذي غفوت عليه ..
أفقت ، وليس بي أقل أثر لكل مشاعر السجين ؛ الذي كنته قبل أن اغفو ..
أفقت .. فقط أفقت ، ولا حاجة في نفسي للكلام أو البكاء أو الحزن ، أو لمعرفة الوقت ، وقد كنت قبلها، أعد الثواني ..
بعد ذلك بساعة ، ساعتين ، ثلاثة، لا أذكر ..
طرق طارق باب السجن ، ونادى :
– عمر .. يا عمر .. وكان صوته حذراً خافتاً ..
وقفت قبالة كوة الباب الحديدي المغلقة في وجهي ، وأجبته بالصوت الحذر الخافت نفسه : – نعم
همس واثقاً من سؤاله :
– بدي الحلوينة!
ودارت بي الدنيا ، وشعرت برغبة السقوط والتهاوي ليس عجزاً عن التماسك ، بل رأفة بحال سجين ، يسأله سجانه عن حلوينة ، وماذا يملك مثلي في غرفة سوداء ، يقف فوق باطونها حافياً ببنطال أسود وقميص أبيض نتنين ، لم يغسلهما منذ أسابيع ..
ورحت أغرس أصابعي في شعر رأسي الذي طال ، وأحكّه ، فقد شعرت بالدم يسري في فروته ..
ثم كرر طلبه ، وقال :
– عندي ابني بحب الموسيقى ، بدي آخذ له كوردون ..
وفهمت منه أنه يريد أوكورديون لولده ..
قلت له : عندي واحد جديد في البيت ، أطلبه من أهلي وقل لهم بعلامة أنه أخضر ، وحزامه نبيذي اللون ..
فرد علي : لا .. رح تعطيني ياه بايدك .. اليوم عندك إخلاء سبيل ..
وسمعته يخطو بعيداً مسرعاً حذراً ..
أسندت ظهري للحائط .. وانزلقت لأجلس القرفصاء ..
لم أعرف لحظتها ، إلا صمتاً مشوشاً ، وتيهاً لا أعرف له قراراً ، ورحت أبحث عن الضوء في الزنزانة ، عن جدرانها ، عن أبعادها .. ثم ركعت ورحت أتلمس بكفي باطون أرضها ، أبحث عن فتحة التبول في زاويتها الداخلية ..
بكيت .. نعم بكيت وأجهشت في البكاء .. فرحاً بما سمعت .. جوعاً للحياة .. بكيت رأفة بروحي التي أنهكها البكاء ..
عرفت أنها كانت الخامسة والنصف مساء ، عندما تسلمت حزامي وحذائي وهويتي وبقايا نقود ، تركتها فوق الطاولة لأمين الإيداعات ..
وغادرت ..
غادرت لأتبع ذلك النور الذي أخذني إلى صوفية ، لا أحب أن أعود منها !
ملاحظة : هذا ليس نصاً أدبيا ، بل قصة حقيقية عشتها ..
واليوم ونحن في زمن كورونا ، قررت أن أحكيها .. لأنه زمن الرجاء .
عمر سعيد