النصيحةُ ليست تستحقُ جملاً (بقلم عمر سعيد)
يذكرني مثل
” كانت النصيحة بجمل ”
بأولئك الأشخاص الذين يقفون عند إشارات المرور ، يوزعون على الناس منشور دعاية لتخفيضات ما ، أو للإعلان عن أصناف جديدة ، أو لمؤسسة تفتتح في مكان ما .
فكثير منهم لا يعرف عن محتوى المنشور ، وليس له في كل ما يحصل أكثر من تقاضي أجر العمل الذي كُلف به ..
فما أكثرَ موزعي النصائح ، وما أقلَ منتجيها !
وإذا ما استسهل الناس توزيع النصائح ، فعلم أنهم في أزمة قطيعة بين القول والفعل ، وفي خواء سحيق .
فحيث يكثر الكلام ، ينقطع العمل ، ذلك لأن الفراغ يفتح الشهية على التنظير والتخطيط والثرثرة ..
فكم من مفلس مديون غارق في الإسراف أتانا يردد : ” خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود ”
وكم من مدخن أنهكه السقم بإدمانه ، جلس يقرض بين الناس : ” درهم وقاية خير من قنطار علاج ”
وكم من متعال متبجح عالق في إرثه ، يزن الناس بأجدادهم وأصولهم ، ردد على المسامع قول علي بن أبي طالب :
” كن ابن من شئت واكتسب أدباً
يغنيك محموده عن النسبِ ”
لنكتشف أن أحوج الناس للنصيحة هو الناصح نفسه ..
فلطالما كانت النصيحة الأبلغ عبر التجارب في التاريخ هي الفعل والممارسة والتطبيق ..
وما اللسان إلا فراطة كلام ، تثير الغبار والتبن والقش ، دون أن تخلف تحتها أية حبوب أو محاصيل ..
فالنار تحت قدر فارغ ، لن تنضج أية أطعمة ، والثرثرة في فضاء ينعدم فيه انتقال الموجات الصوتية ، لن تبلغ أية أذن ..
وأبلغ القول عمل اتممته بنفسك لنفسك ، ومهما صغر حجمه أو ضؤل ، وكما يقول هيغل : ” إن أصغر إنجاز أفضل من أعظم مشروع ”
وأفضل ما يلخّص موضوعنا هذا أبيات شعرية للأبي تمام من قصيدة يصف فيها فتح عمورية ، بعد أن نصح الناصحون المعتصم بتأجيل الأمر إلى الصيف :
” السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتب
في حَدِّه الحدُ بين الجدِ واللعبِ
بِيضُ الصفائحِ لا سودُ الصحائفِ
في مُتونِهن جلاءُ الشكّ والريبِ
فَتْحُ الفُتوحِ تَعَالَى أَنْ يُحيطَ بِهِ
نَظْمٌ مِن الشعْرِ أَوْ نَثْرٌ مِنَ الخُطَبِ ”
فليتنا نبخل في النصح ، ونجود بالعمل والسلوك والتطبيق ، ونكتسي برداء الصدق مع النفس .
فأكسد البضائع نصيحة لا تشبه بائعها ..
والجَملُ لا يستحقُه إلى من سعى إليه ، لا من قضى عمره صرصاراً يغني على سيقان الشوك صيفاً.
عمر سعيد