أصحاب الحقيقة موتى مؤجلون (بقلم عمر سعيد)
لست من عشاق امتلاك الحقيقة ، وإن كلفني البحث عنها قراءة أكثر من أربعة آلاف كتاب ، حتى اليوم ..
ولست هنا بوارد تعريف الحقيقة ، لأنني – وببساطة – لا أعرفها ، لأن تعريفها هو إدعاء فاضح لامتلاكها ..
أحب أولئك التائهين دون توقف ..
أولئك الذين إذا ركبوا القطار ، لا يسألون عن وجهته ، وإن سألوا ، ما أطالوا الوقوف لسماع الإجابة، وإن صعدوا ، اكتشفوا أنهم ركبوا القطار ؛ الذي لا يوصلهم ، فترددوا في النزول ، ثم نزلوا ، بعد أن تبين لهم أنهم قاب قوسين أو أدنى من ارتكاب حماقة .
هؤلاء هم الذين يستمتعون برحلة الحياة ، لأنهم على متن اكتشاف دائم ، وعلى دهشة لا تتوقف ..
يحملون في رؤوسهم تساؤلات لا تنتهي ، وفي صدورهم فراغا ًلا يمتلىء ، وفي أرواحهم تشرداً لا يستوطن ..
يقصدون المجهول ، دون أن يدركوا احياناً أنهم فيه ، يدفعهم إليه فرارهم من المألوف المعلوم الرتيب الممل ، لأن الغرابة في المجهول جذابة بكل مخاطرها وقسوتها وتنفيرها ..
ذلك لأن المجهول أيضا موطن كل بحث ، و جديد ، وإجابة ، وتساؤل ، ومنجم كل محاولة و فشل ، فالمجهول حياة ، والمألوف موت .
قد يقول البعض إن الألفة ثقة ، وإن المعلوم أمان واستقرار .
وأقول إن الثقة استيطان ، وإن الأمن والاستقرار ترهل نفسي و جهل تبدن .
فأقبح الأصوات تلك التي نألفها ، وأطول الدروب تلك التي مشيتها كل يوم ، لأنها خلت من التفاصيل والتضاريس ، وصارت مستوية وإن كانت شعباً في جبل لا يرحم الأقدام .
في ضاحية هواشونغ في سنغافورا ، وفي معهد هواشونغ الذي يضم أكثر من ستة آلاف طالبا ، كانت إدارة المعهد تطلق من وقت لآخر قنابل مفرقعه في ممراته ، وساحاته ، وقاعاته الدراسية ..
سألت الإدارة عن الدافع إليها ، فردوا :
” إنها وسيلة تحفيز وإيقاظ ”
وكانوا أحيانا ، يقطعون الرتابة بمكبر صوت يخترق كل غرف المعهد وأروقته وساحاته بسؤال ؛ يطرح على الجميع ؛ ليجيبوا عليه عند المعلم/ ة .
ومرات كانت تنبعث موسيقى لدقائق .. وأخرى صراخات الطلاب العالية .
كانوا يفرغون الوقت من رتابته بكل ما يحمل الدهشة والتشويق .
وكان وكلاء المدارس في الرياض يتلبسون دور المباحث للقبض على المخالفين من الطلاب الذين يلقون مفرقعة توقظهم من ترهلهم فوق مقاعدهم خلف المكاتب ..
وينفقون اليوم الوظيفي في معالجة الحيوية التي تولدت عن قتل تلك الرتابة ..
ولما كنت أسألهم عن هذا التشدد ، كانوا يجيبون :
” إذا أفلت الطلاب ، يستحيل ضبطهم بعدها ”
وهل مهمة التعليم هي ضبط الإنسان وتكبيله ؟!
وهل أن مهمة المدارس تكوين نسخ بشرية لا تحصى ؟
أم أن مهمة التعليم هي تحريض الإنسان على الإنفلات اللا محدود من كل قيود التسليم بوجود حقائق ؟
إن أقبح ما في رحلة الحياة هو تجنب التجارب ، والفرار من المخاطر ، والحيطة من الاضطرار ..
لكل ما تقدم ، أشفق على من بلغ الحقيقة ، لأنه فقد كل أسباب الاستمرار ، وما تبقى له إلا الاختفاء الكلي الذي بدأه تدريجياً .
عمر سعيد .