مواسم تعزيل / بقلم عمر سعيد
أيّام كانت قريتي قرية نائية.
كان لمجتمعنا الرّيفي هويّته الّتي سقط الكثير منها في الطّريق إلى بلدتنا الّتي ما بقي فيها شيء ممّا كان ينبغي أن يبقى.
هدمنا كلّ بيوتها القديمة، بذكرياتها، ونكهاتها، صور أحبتها، وروائحها، وملامحها الّتي كانت تشبه الأجداد.
وأقمنا مكانّها مكعّبات معماريّة بشقق، يسكنها الكثير من الغرباء الّذين فتكوا بعاداتنا، وتقاليدنا، ولهجتنا، وأصناف أطعمتنا المعدودة، وبما كان لنا من تراث ريفي بسيط.
أذكر أنّ كافّة بيوتنا كانت تعتمد قاعدة الاقتناء والمونة. خاصّة بما يتعلّق بأدوات الطّبخ، رغم أنّ بيوتنا ما كانت لها مطابخ.
كان مطبخنا موقدًا خارجيًا صيفًا، وموقدةً داخليةً شتاء أطفأها بابور الكاز ولاحقًا “البوتوغاز”.
وإلى اليوم، لازالت في كثير من بيوت بلدتنا قاعدة الاقتناء والمونة، رغم أنّنا ما عدنا نقتني الحمير والماعز والأبقار والدّجاج والحمام.
دزّينة صحون معيّنة، تجدها في كافّة البيوت.
عدّة دزّينات أكواب شاي مضلّعة فرنسيّة.
فناجين قهوة شفّة من تلك المطرّزة بزخرفات شرقيّة.
دزينة صحون فول. عدد من صحون شختورة للأرزّ.
أكواب شرب عصير أو ماء طوّقتها رسوم الورود، شِوَك وملاعق، وأشياش لحمة لا نستخدمها بتاتًا. فنحن نأكل القورما لا اللّحم، ونتناول الطّعام بالخبز ولا نحتاج إلى شوكة او ملعقة.
دزّينة مناشف وجه. دزّينة مناشف جسم. دزّينة وسائد. عدّة لحف صوف، دست نحاس أبيض، دست نحاس أصفر، عشرات وعشرات من المقتنيات الّتي كانت تفرضها على أهلنا قاعدة الاقتناء والمونة.
والجملة الشّهيرة على ألسن الأمّهات: ” كله بينعاز”
غزت محلّات الأدوات المنزليّة بلدتنا.
وكذلك محلّات الأقمشة والفرشات والأغطية.
وبات المطعم أقرب من مطابخ البيوت إلى أصحابها.
حتّى مغاسل الثّياب حجزت لها مكانًا بين عمائرنا.
وخلت حواكيرنا من أيّ نبت، فالخضري يمرّ ببابنا مرّتين يوميّا.
تخلّينا عن كلّ ما كان لأهلنا من همم وعزائم، واحتفظنا بكل ما كان لهم من مقتنيات، فرضها عليهم بُعد القرية عن المدينة، وغياب إمكانية التّسوق اليوميّة، وندرة الثّلاجات والتّبريد والكهرباء.
لقد استبقينا على مقتنيات أهلنا لأنّها صارت شكلاً من أشكال التّبجح والاعتداد بالحال.
وضحيّنا ببساطتهم، وإرادتهم، وإصرارهم على البقاء بأرضهم مهما قلّت الإمكانات.
وأبرز ما استبقيناه ممّا كان لهم موسم التّعزيل، ذاك الّذي يتيح للجميع عرض ما لديهم من مقتنيات مرّة في العام، فوق أسطح البيوت وعند مداخلها، وعلى حبال الشّرفات.
ومن هذا المعرض السّنوي، أحصيت مقتنيات النّاس لمقالتي هذه.
لقد كبرت قريتي، حتّى باتت بلدة، وصغر جدّي وستّي، حتّى صارا جدّو وتيتا.
أمّا أمّي وبيّي. فكان الله بعونهما على ما ألمّ بهما من إحراج، منذ باتا ماميتو وبابيتو.
عمر سعيد