مريول المدرسة بقلم د. بلال عبدالهادي
مريول المدرس
سألني صحافيّ يريد كتابة تحقيق، بمناسبة انتهاء العطلة الصيفية وعودة الطلاب إلى المدارس، عن معنى المريول؟ ومن أين جاءت هذه الكلمة؟ وهل هي عربية المصدر أم معرّبة عن لغة ما؟ باغتني سؤاله. لم يسبق لي أن فكّرت في البحث عن هويّة هذه الكلمة، أي كنت كغيري من الناس الذين يذهبون ضحيّة البداهة التي لا تكترث كثيراً لطرح الأسئلة – والبداهة أحياناً حجاب!- وأجهل كلّ شيء عن نسبها وسيرة حياتها، والرحم التي احتضنتها، ولست من هواة الكلام حول ما لا أعرف، حتّى لا أقع في فخّ القول العربيّ القديم:” يهرف بما لا يعرف”. قلت للصحافيّ: أمهلني بعض الوقت، فإن وجدت إجابة تغريني بالقول أخبرك بالجواب.
وبدأت نزهتي اللغويّة الشيّقة مع المريول. قراءة سِيَرِ الكلمات لا تختلف في أيّ حال، من حيث المتعة، عن قراءة سير الناس. قلت في هكذا حالة ليس لك إلاّ أنْ تطلب المساعدة من المعاجم، ففيها، من حيث المبدأ! ما يشفي الغليل. وكم ذهلت حين وجدت أنّ معاجمنا العربية بكْماء، صمّاء في ما يخصّ هذه الكلمة. فبدأت أشكّ، هل يمكن أن تكون من الكلمات الدخيلة التي تنظر إليها المعاجم نظرة دونيّة؟ وأنا أعرف أنّ المعاجم تمارس الدكتاتوريّة الفجّة، أحياناً، مع بعْض المفردات، كما أن نظرتها لا تخلو في بعض الأحيان من طبقيّة اعتباطيّة ومزاجيّة صارخة.
قلت عسى أن يسعفني”غوغل” أشهر موقع للبحث على شبكة الانترنت في إيجاد إشارة إلى هذه المفردة. وكم دهشت حين وجدت أنّ الأوراق الرقميّة التي تنسدل أمامي بالآلاف( 340 ألف صفحة رقميّة) بمجرد ذكر مفردة “مريول” تحتاج إلى وقت طويل لقراءتها، فهي من المفردات التي دخلت ، بحسب ما قال لي “غوغل”، في حياتنا اليومية وفي همومنا الاقتصاديّة، وأيضاً في قصائد الكثير من شعرائنا الذين تغزّلوا بـبنات المدارس المراهقات “لابسات المريول”، وكذلك في القصص والروايات والأغنيات.
تأكّدت، بعد بحث، أنّ هذه المفردة عربية أباً عن جدّ، ليست من الكلمات المستوردة أو المعرّبة. ولسبب ما طريف كانت إجابة عدد لا بأس به من طلاّب الجامعة- قسم الأدب العربي- الذين استفسرت منهم عن أصلها بأنّها “إيطالية”! رغم عروبة الكلمة فهي غير مذكورة ولا في أيّ معجم من المعاجم التي في حوزتي فلا هي في “القاموس المحيط” ولا في “لسان العرب”، ولا “تاج العروس” من المعاجم القديمة. قلت قد تكون كلمة حديثة الميلاد، ولكنّها غير موجودة في المعاجم المعاصرة كـ “المعجم الوسيط “، ولا في “المنجد”، ولا في “الرائد” الذي غيّر من عادة المعاجم باعتماده على الحرف الأوّل من أيّ كلمة بغضّ النظر عن كون هذا الحرف من أصل الجذر أو من الزوائد الصرفيّة، وذلك لتسهيل المشقّة على من عوده اللغويّ لا يزال طريّاً. وعليه، فكلمة مريول يجب أنْ تكون موجودة في حرف الميم وليس في حرف الراء، ومع هذا لا شيء، يخرس المعجم عن الإتيان على ذكر هذه المفردة، وكأنها لقيطة، أو غير عربية، ولا تستحقّ احتلال حيّز من المعجم رغم أنّ مسمّى هذه الكلمة يحتل حيّزاً من أجساد الناس على امتداد شهور وشهور من كلّ عام دراسيّ، بل ولعدد كبير من الطلاّب ذكريات جميلة أو مريرة أو عاطفية مع مريول المدرسة.
وفي رحلة البحث عن هذه المفردة، وجدت أنّ جذرها هو”رول” أو “ريل”، وفي أغلب المعاجم العربية تجد ارتباكاً ظاهراً في جذور الكلمات التي يتوسّطها حرف الواو أو حرف الياء. وأذكر قولاً لأحد اللغويين العرب القدامى جاء فيه:” من فكّر في الياء أصيب بالإعياء”. فالواو والياء من أحرف العلّة( والتسمية دالّة) في العربية، أي أنهما، بشكل من الأشكال، من الأحرف المريضة، المعلولة. ويبدو أنّ علّتها انتقلت بالعدوى إلى ذلك اللغويّ الذي وقف حائراً أمام الياء التي لا تثبت على شكل واحد، فهي طوراً تتوارى خلف الواو، وطوراً آخر تتشبّث بشكلها اليائيّ، وهذا ما نلحظه في جمع مفردة “مريول” على أفواه الناس، فبعض اللهجات تميل إلى تفضيل “مراويل” ولهجات أخرى ترتاح لاستعمال “مراييل”، وكذلك الأمر في جمع “مليون” فالبعض يجنح الى استعمال “ملايين”، ولكن ” ملاوين” ليست غريبة عن التداول في بعض اللهجات.
ومع أنّي عرفت مصدرها إلاّ أنني لم أجد لها حضوراً ماديّاً في المعاجم ولا حتى في معجم “ألفاظ الحضارة الحديثة ومصطلحات الفنون” الذي أصدره مجمع اللغة العربية في القاهرة، ولكنّي عثرت في هذا المعجم تحت باب “الثياب وما يتعلق بها” على مفردة “مِرْولة” وهي ثوب يقي ملابس الأطفال، أي أنّ القاموس لم يأخذ بعين الاعتبار صيغة مريول الشائعة، وأبدلها بمفردة غير مستعملة أو غير متداولة فيما أظنّ، وفضّل وضع مفردة جديدة على صيغة اسم الآلة “مفعلة” بدلاً من استخدام الموجود أو استثمار المتداول، وحين قرّرت البحث عن “مرولة” في “غوغل” لم تزد الصفحات الرقمية عن 682 صفحة، بينما كانت عدد صفحات ” مريلة” الموضوعة بديلا لكلمة مريول أعلى نسبياً إذ بلغت 34600 صفحة، ولكن بكبسة زرّ “غوغوليّة” يكتشف المرء أنّ المنتصر انتصارا كاسحاً بفارق آلاف الصفحات هو “المريول” وليس أي بديل مقترح آخر!
الشيخ أحمد رضا في قاموسه الطريف” ردّ العامي إلى الفصيح” استخدم “مريول” معتبراً أنّ أصلها عربي قحّ، وراح يشرح ولادة هذه المفردة وطريقة وصولها إلى مدلولها الحالي فيقول إنّ الجذر يعني لعاب الطفل، ويعدّد المفردات الدالّة على اللعاب وهي “الرِّيال” أو” الرِّيالة” أو “الرُّيال”، والمريول هو “ثوب يوضع على صدر الصبيّ ليقي ثوبه من رُوَاله أي لعابه”، ونسمع في العامية عبارة “ولد عم بريّل” أي” يسيل لعابه”. ويقول المعجم الوسيط إنّ ” مَريَلة: فوطة تُلفّ حول عنق الصبي لوقاية ثوبه من اللّعاب”. ومعروف في اللغات، كلّ اللغات، أنّها تعتمد على ما يعرف بـ”توسيع الدلالة” بالمصطلح اللغويّ، وهذا ما حصل فيما يبدو لكلمة مريول التي كانت تعني في الأصل الثوب الذي يقي من اللعاب(الريال) ثم تحوّلت إلى معناها الراهن وهو الثوب الذي يقي الثياب من الوسخ، كمريول الشغل، ومن ثمّ، في خطوة تالية، حملت معنى ثوب المدرسة أو” الزيّ الموحّد” الذي يحمل فضلاً عن دلالته اللغويّة دلالات اجتماعيّة وسيميائيّة وارفة الغنى، منها مثلاً تذويب الفوارق الطبقيّة التي قد تكشفها ثياب الطلاّب.
ولا تخلو، في أيّ حال، صلة “المريول” اللغويّة بلعاب الطفولة من دلالة طريفة ما كانت لتخطر لي ببال لولا سؤال ذلك الصحافيّ النبيه.
بلال عبد الهادي
من مقالات كتاب: لعنة بابل