تأخير صدور القرار الظني باغتيال الحريري… سياسي أم قضائي؟
قبل 15 عاماً، وتحديداً في 14 فبراير (شباط) 2005، دوّى انفجار هائل أمام نادي اليخوت على الواجهة البحرية المجددة من بيروت، غيّر مجرى الحياة السياسية في لبنان، وزعزع التوازن الإقليمي الذي شكّل لبنان مسرحاً له، ومؤشراً مهماً لانتقاله من الصراع البارد بالوكالة إلى المواجهة الساخنة على مختلف الساحات العربية بدءًا من بيروت.
أودى انفجار 14 فبراير بحياة رئيس الوزراء الأسبق للبنان وزعيم الطائفة السنية رفيق الحريري، مفجّراً حزناً وغضباً عارمَيْن لم تقتصر حدودهما على الطائفة، بل تجاوزتها لتطال شريحة كبيرة من اللبنانيين من مختلف الطوائف. أصابع الاتهام السياسي في الدرجة الأولى وُجهت إلى سوريا، الوصي على لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 ودخول الجيش السوري بعد الانقلاب على رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك ميشال عون.
وفي الشارع المقابل الحليف لسوريا، كان رفض للاتهام. وجاء تنظيم تظاهرة من جانب القوى الحليفة لدمشق في الثامن من مارس (آذار) 2005 ليفجّر فورة غضب عارمة أدت إلى ولادة تحالف “14 آذار”، رداً على احتفالية الدعم للنظام السوري، رفضاً لاتهام دمشق بتنفيذ الاغتيال.
نشأة المحكمة الدولية
منذ ذلك التاريخ، دخلت البلاد في اصطفاف سياسي حاد بين تحالف “14 آذار” المنبثق من مليونية الشارع المنتفض على المس بسيادة البلد ووصاية القبضة السورية عليه، وبين تحالف الثامن منه الذي جمع تحت قبعته كل القوى الموالية لنظام الأسد. ومن رحم هذين الاصطفافين، بدأت معركة استعادة السيادة اللبنانية من باب تحقيق العدالة وكشف هوية منفذي جريمة الاغتيال، في وجه الفريق الذي يرى السيادة من باب وحدة المسار والمصير مع سوريا.
ولم ينجح القضاء اللبناني في تحمل مسؤولية إدارة التحقيقات بفعل الشكوك التي رافقت مسارها، فكان لجوء الفريق المتضرر إلى الأمم المتحدة، مطالباً بالعدالة الدولية.
وعلى الرغم من المسار الشاق الذي سلكه فريق “14 آذار” والمجلجل بمزيد من الاغتيالات في صفوفه، لوضع اتفاق بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة لإنشاء محكمة خاصة للنظر في الجريمة، فإن رفض الفريق الموالي لسوريا والممثل في الحكومة هذا الاتفاق، أسقطه على طاولة مجلس الوزراء باستقالة وزرائه، ما أدى إلى إنشاء المحكمة بقرار دولي تحت الفصل السابع حمل الرقم 1757 وذلك في الأول من مارس من عام 2009 أي بعد أربعة أعوام على الاغتيال. مقر المحكمة في لاهاي، وهي أول محاكمة دولية تتصل ببلد عربي.
مئات القتلى وآلاف المستندات نظرت فيها المحكمة بتمويل كلّف على مدى عقد ونصف، حوالى نصف مليار دولار توزع بين مساهمات 28 دولة ولبنان.
مسار طويل وشاق سلكته المحكمة منذ إنشائها، خصوصاً بعدما ضمت جرائم اغتيال القيادي جورج حاوي ومحاولتَيْ اغتيال النائب مروان حمادة والوزير السابق الياس المر.
وأكثر ما أثّر في عمل المحكمة وأعاق تقدمها، الاتهامات التي وجهها إليها “حزب الله” والنظام السوري بالتسييس وسعيهما الدؤوب على مدى الأعوام إلى “شيطنتها” و”صهينتها” في نظر جمهور الحزب وحلفاء دمشق، بعدما كان تركيز هذا الفريق على الأيدي الخفية لواشنطن وإسرائيل في العملية، وفي إنشاء المحكمة لاستهدافهما، وقد بلغ الأمر بهذا الفريق بأن واجه أكثر من مرة عملية تمويل المحكمة التي تقع بنسبة 40 في المئة على عاتق لبنان.
معرفة الحقيقة
لم يخلُ بيان وزاري للحكومات المتعاقبة منذ الاغتيال من إدراج بند يؤكد حرص لبنان على معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة، ولكن أي عمل على المستوى الداخلي لم يتحقق، إذ لم تلقَ المحكمة أي تعاون من الفريق المتهم. وباستثناء التعاون الذي قدمه المتضررون، والقضاء اللبناني في بعض المراحل التي كان فيها خارج النفوذ السوري، اعتمدت المحكمة على وسائلها الخاصة في التحقيقات، حتى بلغت، في يونيو (حزيران) 2011، وبعد تحقيقات مع أكثر من 1200 شخص ودرس حوالى 10 آلاف دليل جنائي، وتعاقب أكثر من مدع عام، إلى توجيه الاتهام إلى أربعة عناصر من “حزب الله”، هم مصطفى بدر الدين بتهمة التخطيط والإشراف على التنفيذ، سليم عياش بتهمة قيادة فريق الاغتيال، والرجلان هما مقربان من القيادي في الحزب عماد مغنية الذي اغتيل في سوريا في 12 فبراير عام 2008، على مسافة يومين من الذكرى الثالثة لاغتيال الحريري. أما المتهمَيْن الآخرَيْن، فهما حسين عنيسي وأسد صبرا بتهمة تسجيل فيديو مزيف يدّعي تنفيذ الجريمة، وألحق القرار الظني بالأربعة، متهماً خامساً هو حسن مرعي بتهمة التواطؤ والتآمر.
وُجّهت انتقادات عدّة إلى عمل المحكمة بالتباطؤ لأسباب وُصفت بأنها “في سبيل تحصيل الأموال عبر إطالة أمد التحقيقات”، ولكن في أواخر صيف 2018، صدرت المرافعات الختامية في حق المتهمين، وقد حضرها رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري في لاهاي إلى جانب عدد كبير من أهالي الضحايا.
وعلى طريق التحقيقات، قضى مغنية وبدر الدين، بينما امتنع المتهمون الآخرون من الحضور إلى لاهاي تحت أي صفة بذريعة عدم الاعتراف بالمحكمة أساساً، فضلاً عن عدم التسليم بالاتهامات ومحاولة نقضها علانية.
أين وصلت التحقيقات؟
ومع دخول الجريمة عامها الـ 15، شكّل ختم المرافعات المحطة الأخيرة التي تسبق صدور الحكم. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، يأتي هذا الموضوع بمثابة سيف مسلط يجري استغلاله واستعماله في الحسابات السياسية الداخلية، كما الخارجية تحت وطأة سؤال واحد: هل يصدر الحكم في حق المتهمين بعدما أظهرت كل التحقيقات ضلوعهم بالجريمة أو أن الحكم لا يزال رهن ظروف سياسية ما؟ ومدعاة السؤال أن صدور هكذا حكم يعني صدور حكم في حق “حزب الله” وربما من ورائه سوريا التي تداولت الكتابات حولها بأنها الرأس المدبر وأن الحزب شكّل الأداة التنفيذية.
السؤال الآخر الذي لا يقل أهمية، يكمن في مدى قدرة لبنان على التعامل مع قرار المحكمة وتنفيذ الحكم، علماً أنّ هناك في تيار الحريري مَن يقول إنّ الحقيقة ظهرت والعدالة تحقّقت حتى من دون صدور الحكم، انطلاقاً من الاتهام في حد ذاته ومن التطورات التي توالت على مرّ الأعوام والاغتيالات التي طالت عدداً غير قليل من رجال النفوذ السوري أو “الحزب الإلهي”.
في الجانب القضائي
يركن أصحاب هذا الرأي إلى ما جاء في المرافعات النهائية. صحيح أنه لم يكن جديداً وهو ختم لكل التحقيقات السابقة، ولكن أهميته تكمن في أنه اتهام قضائي وليس سياسياً، مثبت بالأدلة، صادر عن ادعاء عام المحكمة الدولية. وفيه اتهام النظام السوري و”حزب الله” باغتيال الحريري وتنفيذ التفجير وذلك استناداً إلى 3128 دليلاً. وقد جاء في القرار أن الاغتيال وُضع في إطار توتر حاد بينه وبين الأسد وأن الشبكة الخضراء التي قامت بالاغتيال كانت تابعة تماماً لمنظمة “حزب الله”. ويرى الادّعاء أن الأدلة التي تؤكد تورّط الحزب والنظام السوري في “صلب هذه العملية ثابتة”. وتؤكد كذلك اتهام المسؤولين الخمسة بدر الدين وعياش وعنيسي وصبرا ومرعي، والعقل المدبر هو بدر الدين الذي عرّف عنه الادّعاء بأنه كان مسؤولاً كبيراً في الحزب.
الحكم ينتظر انتهاء المذاكرة
منذ 21 سبتمبر (أيلول) 2018، موعد ختم المرافعات، لم يصدر أي موقف عن المحكمة الدولية في شأن موعد الحكم، وسط توقعات صحافية متتالية تطلق مواعيد لم يصدق أي منها حتى الآن. في الموازاة، تؤكد مصادر المحكمة أن غرفة الدرجة الأولى فيها منصرفة منذ ذلك التاريخ إلى التذاكر تمهيداً لإصدار الحكم. وتتذرّع أحياناً بالعطلة القضائية الصيفية المقتضبة للمحكمة، إذ يُعلّق أي نشاط قضائي فيها، وهي عطلة امتدت من 29 يوليو (تموز) إلى 16 أغسطس (آب) 2019، وهذا لا يعني، بحسب الناطقة باسم المحكمة وجد رمضان، توقف العمل، ولا تأجيل عمل المحكمة.
التوقيت المناسب
هل طالت فترة التذاكر؟ أو إن الحكم أصبح جاهزاً وينتظر التوقيت المناسب لإعلانه؟ ليس لأي جهة في المحكمة أن تجيب عن سؤال كهذا إلاّ بالقول إن لا موعد محدداً لإصدار الحكم، والمحاكمة التي طالت حوالى أربعة أعوام ونصف العام تحت ضغط أدلة كثيرة ومعقدة، تحتاج إلى التأني في تحليلها حتى التثبت من صحة الاتهام، فالقانون الدولي لحقوق الإنسان والنظام الأساسي للمحكمة، يفترض أن يُقدَّم الدليل وأن يكون معلّلاً.
إذاً، لا مهل قانونية لانتهاء المذاكرة. وفي انتظار انتهاء المذاكرات النهائية، وتحديد موعد الجلسة العلنية للنطق بالحكم، يبقى السؤال مشروعاً حيال ما إذا كان هذا الحكم برسم القرار السياسي، خصوصاً أنّ لبنان يعيش اليوم في ظل حكومة يطغى عليها نفوذ “حزب الله” وسوريا، فيما الحريري الابن خارج السلطة، متنصّلاً من عبء تحمل مسؤولية أي حكم وهو داخلها، كما حصل غداة ختم المرافعات عندما انتزع الطابع الشخصي الذي يربطه بالقضية لمصلحة البلاد و”الشراكة الوطنية”، على حد تعبيره.
اتهام سياسي؟
والواقع أنها لم تكن المرة الأولى التي يتخذ فيها الحريري موقفاً مماثلاً، إذ فاجأ قبل أعوام، وتحديداً عام 2011 وفي حديث صحافي، بسحب اتهامه لسوريا واصفاً ذلك الاتهام بـ”السياسي”، وذلك عشية زيارة رسمية قام بها إلى دمشق، وأقام خلالها في دارة الرئيس السوري وفي ضيافته، مفتتحاً مساراً من التنازلات السياسية أدت إلى صعود نفوذ “حزب الله” وتوسّعه.
فهل يتحرر الحريري من قيود السلطة، ويمضي في قبول حكم المحكمة، وهل يدخل هذا الحكم ضمن الحسابات الخارجية القائمة على الصراع الأميركي الإيراني والتضييق الحاصل على الحزب محلياً؟ وهل له أن يسلك سبيله إلى التنفيذ في ظل النفوذ المتنامي للحزب في الحكومة اللبنانية، أو أنه ورقة من أوراق الضغط والتفاوض التي يجري التداول بها اليوم على الساحة اللبنانية؟
في مطلق الأحوال، يحيي اللبنانيون الذكرى الـ 15 لاغتيال الحريري وسط إقفال رسمي احتراماً للذكرى، في انتظار محكمة دولية لتقول كلمتها في عدالة ولو متأخرة.
رئيس قلم المحكمة في بيروت
وفي انتظار انتهاء المذاكرات، لفتت زيارة رئيس قلم المحكمة الدولية داريل مونديس لبنان، حيث كان له لقاء مع رئيس الحكومة حسان دياب في السرايا الحكومية وعرض معه مسائل تتعلق بعمل المحكمة. وعلم أن البحث تناول التزام لبنان استمرار تمويل المحكمة.
جاكلين مبارك – اندبندنت عربية