لبنان أمام خيارين… إما إفلاس الدولة أو الشعب
تتسارع وتيرة العنف يومياً داخل المصارف مع ارتفاع منسوب قلق المواطنين على مدخراتهم والتي بات الوصول إليها صعباً مع الـ “capital control” الذي تطبقه البنوك، بحيث لا يستطيع المودع الحصول سوى على 200 إلى 300 دولار أسبوعياً، مع مخاوف من انخفاض إضافي خلال المرحلة المقبلة، وصولاً إلى توقف عمليات السحب بالدولار بشكل نهائي.
وفي الفترة الأخيرة باتت الإشكالات بين المواطنين وموظفي المصارف شبه يومية، وأخبار البنوك باتت تتصدر النشرات الإخبارية، وذلك نتيجة خوف المودعين على ودائعهم “المحبوسة”، ما دفع كثيرين منهم إلى التفكير في أي طريقة لـ “تحريرها” وتجنّب مخاطر أي انهيار للقطاع المصرفي. في المقابل، عمدت المصارف إلى أكبر عملية تقييد على السحوبات، ووصل الأمر بها إلى حدّ تقسيط رواتب اللبنانيين، فكان سبباً إضافياً للسجالات العنيفة بين موظفي المصارف والزبائن لم تنفع معها الحماية الأمنية، وخصوصاً مع استمرار دخول مجموعات الحراك إلى مصارف عدة للاحتجاج على السياسات التي تتبعها وكيفية تصرفها مع المودعين، بينما تدخل مجموعات أخرى للضغط في مسعى للحصول على أموالها.
مصارف السياسيين
وفي المقابل، تشير مصادر الحراك الشعبي إلى أن التحركات الاحتجاجية تركّزت في الأسابيع الأخيرة في لبنان على المصارف، إذ يعتبرون أن الطبقة السياسية أو المقربين منها، يمتلكون 18 مصرفاً على الأقل، وأن القيود الخانقة على المواطنين ومنعهم من التصرف بحرية بأموالهم ورواتبهم الشهرية هو أمر ظالم ويستدعي مواجهته.
وأكدت مصادر الحراك أن مكاتب الصيارفة لن تكون بمنأى عن الاحتجاجات، وخصوصاً بعد ارتفاع سعر الدولار في السوق غير الرسمي إلى حوالى 2400 ليرة لبنانية، في حين تعتمد المصارف السعر الرسمي للصرف الذي يحدده مصرف لبنان بـ 1517 ليرة للدولار، ما يترتّب على ذلك خسائر كبيرة للمودعين.
مقايضة العقارات بالودائع
ورأى الخبير الاقتصادي جهاد الحكيّم أن فرض المصارف أمر واقع على عملائها سيفاقم الأزمة أكثر. وأضاف أن بعض المصارف تستغل ذعر المودعين عارضة عليهم مقايضة أموالهم بشقق وعقارات، حتى باتت منافسة جدية للوسطاء العقاريين، مشيراً إلى أن بيع العقارات أو مقايضاتها في الوقت الراهن يتيح للمصارف التخلص من الضمانات العقارية التي لديها على الديون المتعثرة من جهة، كما من الموجبات تجاه المودعين (فالودائع هي ديون على المصارف) من جهة أخرى، خصوصاً أن دفع الودائع المتوجبة للمودعين في الوقت الحالي غير ممكن نتيجة القيود الموجودة، لكن الأكيد أن قدرتها الشرائية تتقلص يوماً بعد يوم.
ورأى حكيّم أن إدارة الأزمة الاقتصادية الحالية فاشلة وستؤدي إلى مزيد من الانهيار والتدهور، “وقد نصل في النهاية إلى توقف المصارف عن دفع الدولار بشكل كامل، ما قد يؤدي إلى ارتفاع في وتيرة التشنج”.
ثروات غير مشروعة
أمّا الحل الأبرز بحسب الحكيّم، يتمثل “بفرض ضريبة على من استفاد أقله في السنوات الخمس الأخيرة، من الاقتصاد الريعي والفوائد التي تشبه الربا الفاحش وضاعف ثروته بغضون أربع سنوات فقط، يمكن لهذه الضريبة أن تكون على سبيل المثال 40 في المئة. فمن أودع 100 مليون دولار وأصبحت 200 مليون دولار في غضون أربع أو خمس سنوات يتوجب عليه دفع 40 مليون دولار كضريبة على الفوائد، وبالتالي حتى من أخرج أمواله بعد أن استفاد من الفوائد الخيالية تطاله هذه ضريبة، ويمكن التنفيذ على ممتلكاته في لبنان في حال تهرب أو تمنع عن سداد الضريبة المتوجبة”.
معتبراً أنه “لا يجوز التحكم أو الاقتطاع من أموال صغار المودعين الذين جنوا أموالهم بعرق جينهم أو حتى من الشركات التي تملك رؤوس أموال كبيرة ولم تستفد من الاقتصاد الريعي، وهي تشغّل مئات اللبنانيين، وبالتالي لا يمكن تحميلهم مسؤولية الأزمة التي وصلنا إليها”، لافتاً إلى أن عدم شرعية التحكم الحاصل بأموال المودعين، الذي أفقد الثقة باقتصاد لبنان والذي جرى تطبيقه بطريقة خاطئة منذ البداية، يناقد بالأصل طبيعة النظام الاقتصادي الحر.
فنزويلا أو اليونان
من ناحية أخرى، رأى مصدر وزاري أنه “بات من الملح اتخاذ قرار حاسم بين الاستمرار بإفلاس المواطنين أو اتخاذ قرار إفلاس الدولة”، معتبراً أن الخيار الثاني وإنشاء لجنة طوارئ لإعادة هيكلة الديون بالتعاون مع البنك الدولي، ووضع خطة جدية لإعادة تفعيل القطاعات الإنتاجية تباعاً، هو الأفضل.
وقال “على السلطة السياسية والاقتصادية الاختيار بين النموذج اليوناني عندما أعلنت الدولة إفلاسها رسمياً وخرجت تدريجياً من أزمتها الحادة، أو خيار فنزويلا عندما أصر رئيسها نيكولاس مادورو على الاستمرار بدفع الديون الخارجية مكابراً على الإفلاس، ما أدى إلى إفقار الأكثرية الساحقة من الشعب وانهيار قيمة البوليفار الفنزويلي.
وتوقع أن تستمر السياسة الاقتصادية على حالها ما سيؤدي إلى كارثة اجتماعية، وكل ذلك نتيجة مكابرة وعنجهية أهل السلطة، مشيراً إلى أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي اعتمد سياسة تثبيت الليرة عند 1500 مقابل الدولار، يعتبر أن تخفيض قيمتها سيكون نكسة لسيرته الذاتية. في حين يعتبر الرئيس ميشال عون أن إفلاس الدولة سيسجل أنه حصل في عهده، لذلك سيستمر بسياسة تسديد الديون الخارجية حتى الرمق الأخير، بما يشبه السياسة التي اعتمدها الرئيس الفنزويلي.
نظام شيوعي
أما فيما خص الودائع المصرفية، فلفت إلى أنه من الصعب “إعادة لملمة” الودائع التي خرجت من القطاع المصرفي، على شكل تسليفات ممنوحة للقطاع الخاص اللبناني المقدرة بـ 55 مليار دولار، أو تلك التي وصلت إلى الدولة اللبنانية كديون من مصرف لبنان، والمقدرة بـ 40 مليار دولار، معتبراً أن استرداد هذه الأموال بات أمراً شبه مستحيل على المدى القصير أو المتوسط، وعليه فإن لبنان يتجه إلى نظام مالي نقدي جديد لفترة لا تقل عن خمس سنوات.
وشدد على أنه خلال هذه السنوات سيواجه المودعون إشكاليات كبيرة مع المصارف “وكأننا بتنا في نظام شيوعي مقنّع بالليبرالية”، متوقعاً ارتفاع سعر الدولار الأميركي إلى عتبة الـ 3000 ليرة لبنانية في السوق الموازي خلال الفصل الأول من عام 2020، بسبب وجود تواطئ بين بعض المصارف والسوق الموازي.
إجراءات صندوق النقد الدولي
وفي الحلول التي يجري تداولها، بدأ الحديث في الأروقة السياسية المحلية عن خيار طلب مساعدة البنك الدولي، في وقت يطلب الأخير مجموعة من الشروط التي يمكن أن تفرض على لبنان في حال اللجوء إلى هذا الخيار، ترتبط بتصحيح الخلل في ميزان المدفوعات والمالية العامة، وأبرزها على الشكل الآتي:
– الخصخصة: هناك لائحة كبيرة من المرافق العامة التي طرحت خصخصتها مثل شركة طيران الشرق الأوسط والخلوي ومرفأي بيروت وطرابلس ومطار بيروت ومؤسسة كهرباء لبنان وشركة الريجي وكازينو لبنان.
– عجز الموازنة: من الشروط الأساسية لمؤتمر “سيدر” التي لم تلتزم بها الحكومة، يطلب الصندوق من لبنان إصلاحات هيكلية، أي مداخيل إضافية مُستدامة تصبح معها إيرادات الموازنة مُستدامة وأعلى من النفقات.
– تحرير سعر صرف الليرة: يطلب الصندوق من الدول أن تعوّم سعر صرف عملتها لخفض الضغط عن احتياطات المصرف المركزي الناتجة عن عجز ميزان المدفوعات. هذا يُريح المصرف المركزي لكن له تداعيات سلبية على القدرة الشرائية للمواطن.
– القطاع العام: في بعض الدول التي نفذت شروط صندوق النقد الدولي، صُرف ما يزيد عن 20 في المئة من موظفي القطاع العام، إلى جانب ذلك يُطلب مكننة الوزارات والمؤسسات العامة وخلق حكومة إلكترونية.
– إصلاح سوق العمل: تشمل بالدرجة الأولى خفض كلفة العمالة لخلق ديناميكية، وتبعاً للتجارب التي عاشتها دول أخرى (مثل اليونان)، يأتي خفض الحد الأدنى للأجور، تمديد فترة التجربة عند بدء وظيفة، خفض فترة الإنذار في حال الصرف، خفض قيمة تعويضات الصرف، خفض الأعباء الاجتماعية (الضمان)، هذه الإجراءات خلقت في بعض الدول رفضاً شعبياً أدّى إلى احتياجات كبيرة.
– الإصلاح الضريبي: تحسين مستوى الجباية هو أهمّ إصلاح ضريبي يتوجب على الحكومة اللبنانية القيام به بسبب ارتفاع نسبة التهرب الضريبي الذي يفوق الأربعة مليارات دولار، ويفترض أيضاً نشر ثقافة “الخضوع للضريبة” في صفوف المواطنين، والأهم إعادة هيكلة النظام الضريبي.
– مؤسسة كهرباء لبنان: تحرير قطاع الكهرباء وفتح باب الشراكة بين القطاعين العام والخاص هو الحل الأكثر فعالية.
– الخدمات الاجتماعية: لبنان سيواجه مُشكلة تزايد أعداد المتقاعدين، فهناك اليوم بحدود الـ 380 ألف عامل في القطاعين العام والخاص سيُصبحون متقاعدين، ومن هذا المنطلق من المتوقع أن تخفض التعويضات وأن يُرفع سن التقاعد إلى 68 سنة
طوني بولس – انديبندنت