انهيار النظام المالي اللبناني: “ثورة الجياع” آتية
حتّى اللحظة، تحافظ المصارف اللبنانيّة على الضوابط المفروضة على السيولة لديها، من ناحية السقوف الأسبوعيّة للسحب النقدي، ومنع عمليّات التحويل إلى الخارج أو شراء الدولار الأميركي. وبذلك، تحوّلت إلى سجن كبير للسيولة، من دون أي قدرة على اجتذاب التحويلات من الخارج، فيما تعاني من نزف ثابت في العملة الصعبة على شكل سحوبات نقديّة محددة السقوف. وفي ظل هذا الاستنزاف، يُفتح باب التساؤلات حول قدرة النظام المالي على الاستمرار مستقبلاً على هذا النحو، وحول اللحظة التي سيعجز فيها عن مقاومة هذه الظروف.
احتياطي العملات الأجنبيّة ينزف
السؤال عن قدرة النظام المالي على الاستمرار، يقودنا تلقائيّاً إلى البحث عن مستويات احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبيّة، وقدرته المستقبليّة على توفير حاجة السوق من العملة الصعبة، وفق النمط الحالي من السحوبات النقديّة بالدولار التي تشهدها المصارف. فنفاذ قدرة الاحتياطي على تلبية الطلب على الدولار يعني ببساطة الدخول في نفق السقوط الأكبر: من عجز الدولة عن اقتراض الدولارات لدفع ديونها بالعملة الصعبة مع الفوائد، وصولاً إلى عدم القدرة على توفير الدولار لاستيراد السلع الأساسيّة، بما فيها تلك المتعلّقة بالأمن الغذائيّ، مروراً بفشل المصارف في توفير النقود الضروريّة لتأمين السحوبات النقديّة بالدولار حتّى ضمن السقوف الحاليّة.
حسب تقرير لبنك أوف أميركا- ميريل لينش، من المتوقّع أن يكون احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبيّة قد بلغ 31.6 مليارات دولار خلال الشهر الماضي. مع العلم أن هذا المستوى من الاحتياطي لا يمثّل الاحتياطي القابل للاستخدام، حسب وكالات التصنيف الدوليّة. إذ يدخل ضمنه عناصر عديدة لا يمكن استخدامها لتوفير حاجات الأسواق، مثل احتياطي المصارف الإلزامي مثلاً وغيرها من العناصر.
وفي كل الأحوال، وحسب التقرير نفسه، من المتوقّع أن يكون هذا الاحتياطي قد استُنفد بالكامل ودخل في مستويات سلبيّة بحلول شهر تمّوز من العام المقبل، في حال استمرّت الوتيرة الحاليّة من السحوبات النقديّة في المصارف. أمّا إذا شهد القطاع المالي إنفراج ما خلال هذه الفترة، وتمكّن من خفض مستوى السحوبات إلى النصف، فيمكن لهذا الاحتياطي أن يستمر بتلبية طلب الأسواق لغاية شهر كانون الأوّل من العام المقبل، قبل أن يُستنفد بالكامل ويدخل في مستويات سلبيّة.
الانهيار مستمرّ
تعتمد حسابات تقرير بنك أوف أميركا – ميريل لينش على افتراض استمرار الانهيار المالي القائم خلال الفترة المقبلة، وخصوصاً من ناحية السحوبات النقديّة الثابتة والكثيفة. وعمليّاً، تدل المؤشّرات بالفعل إلى أنّ ما يجري حاليّاً لن يكون مجرّد خضّة عابرة، بل انهيار عام في الثقة بالنظام المالي والنموذج الذي قام عليه، خصوصاً أن الأحداث الأخيرة كشفت تراكم عوامل التفجّر بصمت، خلال السنوات الماضية.
ولعلّ أبرز دليل على طول أمد هذا الانهيار يكمن تحديداً في ردّ فعل مصرف لبنان، والقرارات العلاجيّة التي حاول من خلالها التعاطي مع الظروف الحاليّة. فخلال السنوات الماضية، كان يعمد مصرف لبنان إلى تنفيذ الهندسات الماليّة مع المصارف، لتمكينها من عرض الفوائد المرتفعة على المودعين واستقدام التدفّقات الماليّة من الخارج. أمّا قراره الأخير، ففعل العكس تماماً، من خلال تحديد سقوف منخفضة نسبيّاً للفوائد على الودائع بالليرة اللبنانيّة والدولار الأميركي في المصارف. وهكذا، يدل هذا القرار على انتقال مصرف لبنان من مرحلة إغراء الودائع لاستقدامها من الخارج، إلى مرحلة الاكتفاء بالحفاظ على الودائع الموجودة بالقوّة، من خلال إجراءات ضبط السيولة التي تقوم بها المصارف. وهو ما يعني أن مصرف لبنان لا يتوقّع خلال الفترة المقبلة العودة إلى استقدام الودائع، خصوصاً أنّه حدد مدّة ستّة أشهر كفترة لتطبيق قراره هذا.
بدائل بانتظار السقوط
في ظل الانهيار، تتنوّع البدائل التي يمكن اعتمادها لتلافي الدخول في نفق السقوط النهائي. تتركّز الخيارات العلاجيّة التي تعتمدها السلطة حاليّاً على الوصفات القديمة والمجرّبة، من قبيل انتظار مؤتمرات الدعم والتواصل مع الدول المانحة لفتح اعتمادات مؤقّتة. وهكذا، تحاول السلطة من خلال هذه الخيارات الحصول على العملة الصعبة، التي تكفيها على المدى القصير، لشراء قليل من الوقت قبل حصول “ثورة جياع” في الطرقات. مع العلم أن أي من هذه الخيارات لن يمكّن السلطة من عكس مسار الانهيار الحاصل حاليّاً، وخصوصاً على مستوى النظام المالي. أمّا مصرف لبنان، وكما ظهر في تعميمه الأخيره، فهو مازال يحاول حماية المصارف وأرباحها خلال فترة الضغوط الحاليّة، عبر خفض الفوائد التي تدفعها المصارف لمودعيها.
وحتّى اللحظة، لم يظهر أي توجّه جدّي من قبل السلطة أو مصرف لبنان للبحث في خيارات خلّاقة، تحمي اللبنانيين من نفق السقوط الآتي. فأدوات ضبط السيولة المعتمدة حاليّاً، والتي تطبقها المصارف وفقاً لرغباتها وقراراتها، لم يتم تنظيمها بقوانين واضحة، تضمن تساوي الجميع في الخضوع لهذه الأدوات. وبإنتظار ذلك، سيظل اللبنانيون يتساءلون عن جدوى تطبيق هذه الضوابط عليهم في فروع المصارف، من دون وجود ضمانات تؤكّد عدم تمكّن النافذين من تهريب ودائعهم إلى الخارج.
وبينما يساعد تخفيض فوائد الودائع على حماية أرباح المصارف، لم يجرِ بالتوازي مع هذه القرارات أي عمل جدي للتفاوض على فوائد الدين العام التي تجنيها المصارف. مع العلم أنّ الدخول في مرحلة تطبيق أدوات ضبط السيولة – التي تطبّقها المصارف اليوم- يعني فتح الباب أمام جميع الخيارات التي تخرج عن آليات عمل السوق الحرّة، وفي طليعتها خيار إعادة هيكلة الدين العام. خصوصاً أن تاريخ الانهيارات الماليّة غني بالأساليب الخلّاقة للتعاطي مع الدين العام حين يصبح عقبة أمام الخروج من حقبات الانهيار.
ما يحتاجه لبنان اليوم أبعد من مجرّد قرارات ظرفيّة تهدف إلى شراء الوقت، خصوصاً أن السلطة تحاول منذ سنوات اعتماد هذه القرارات لتأجيل السقوط الحتمي. وبينما أظهرت تجربة السنوات الماضية أن أزمة لبنان لن تُحل بهذه النوع من القرارات، تُظهر تطوّرات الأسابيع الماضية أن المطلوب اليوم هو أجندة اقتصاديّة مالية تضع في أعلى سلم أولوياتها حماية مصالح محدودي الدخل، لا مصالح النافذين الذين استفادوا من هذا النظام المالي طوال العقود الماضية.
علي نور – المدن