لبنان

المؤتمر التأسيسي للقوات اللبنانية: إعادة إنتاج المشروع السيادي وصياغة الهوية السياسية الجديدة للبنان

بقلم تادي عواد

لم يكن المؤتمر التأسيسي للقوات اللبنانية حدثًا تنظيميًا أو محطة حزبية داخلية فحسب، بل شكّل في جوهره لحظة تحوّل بنيوي في مسار الحركة السياسية في لبنان وفي طبيعة الصراع على هوية الدولة والنظام. فبعد ثلاثة عقود على انتهاء الحرب، دخل البلد مرحلة ما بعد الطائف بتركيبة غير متوازنة، حيث استقرّ السلاح خارج الدولة بصيغته كسلطة موازية، وتحوّل النفوذ الإيراني–السوري إلى ضامن وحيد لمعادلات القوة، ما أفقد المؤسسات شرعيتها وهيبتها. ضمن هذا السياق، أتى مؤتمر القوات لا ليجدّد الحزب فحسب، بل ليعيد تعريف دوره كمرتكز للمشروع السيادي في لبنان.

أولًا: من نهاية الحرب إلى بداية الصراع على الهوية

تبنّت القوات معادلة سياسية واضحة:
«الحرب انتهت، لكن الصراع على هوية الدولة لم ينتهِ».

لقد رفضت العودة إلى منطق السلاح، لكنها ثبّتت أدوات بديلة للصراع مع مشروع «حزب الله–إيران»:

الدستور لا الغلبة العسكرية

المؤسسات لا الشرعية الموازية

الانتخابات لا المحاور الأمنية

الرأي العام الدولي لا محور الإقليم

إنها مقاربة جديدة للصراع: من «نحمي الوجود بالسلاح» إلى «نحمي الدولة بالدستور».

ثانيًا: التحوّل من حزب مقاومة إلى حزب دولة

طوى المؤتمر صفحات الحرب، لا من باب الإنكار، بل من باب التأسيس لهوية حزبية جديدة. انتقل الحزب من ذاكرة الحرب إلى مشروع سياسي سيادي بمرجعية دستورية، ولم يكن التحوّل شكليًا، بل أيديولوجيًا:

هيكلة مؤسساتية حديثة:
إنشاء مجلس سياسي، أمانة عامة، مكاتب انتخابية وعلاقات دولية، وفصل نسبي بين القيادة والآليات التنفيذية.

تحويل العقيدة القتالية إلى عقيدة سيادية:
من «حماية مجتمع» بالسلاح إلى «حماية جمهورية» بالدستور والشرعية.

استبدال خطاب الحرب بخطاب الدولة:
لم يعد الحديث عن خطوط تماس، بل عن: سيادة، حياد، اقتصاد حر، جيش واحد، وقضاء مستقل.

وهكذا خرج الحزب من نمطية الحرب ليدخل زمن الدولة الحديثة.

ثالثًا: دلالات المؤتمر في المشهد السياسي

على المستوى الوطني، أعاد المؤتمر إنتاج القوات كحامل صريح لما تبقّى من مشروع 14 آذار بعد انهيار المحاور:

رفض التعايش مع السلاح غير الشرعي

رفض الشراكة تحت سقف النفوذ الإيراني

رفض تحويل اللبنانيين إلى «شهود» على مصير دولة لا يتحكّمون بمساراتها

هنا، تتقدّم القوات كقوة مسيحية قيادية بعدما تراجع التيار الوطني الحر عن دوره التاريخي وانهار توافقه مع حزب الله.

رابعًا: إعادة التوازن داخل النظام السياسي اللبناني

لم يكن المؤتمر خطوة داخل البيت المسيحي فقط، بل إعادة تموضع داخل بنية النظام:

الدفع نحو اللامركزية الموسّعة كبديل عن دولة منهارة

إعادة المسيحيين كشركاء تأسيس لا كشهود انهيار

مواجهة تفكك الدولة بالعودة إلى صلابة الدستور واتفاق الطائف

لقد قدّمت القوات نفسها كمنظومة جاهزة لملء الفراغ بعد سقوط معادلة ما بعد 1990.

خامسًا: الصراع مع حزب الله خارج منطق الغلبة

أسّس المؤتمر لنظرية سيادية واضحة: الصراع مع حزب الله ليس صراع مقاعد، بل صراع وجودي على:

هوية الكيان

السيادة العسكرية

القرار الوطني

احتكار السلاح

ورفع الحزب خطابه من المستوى التكتيكي إلى المستوى التأسيسي: «دولة مقابل دويلة».

سادسًا: أهمية المؤتمر اليوم (2025)

تراجع محور إيران–الأسد، وانهيار الاقتصاد، وتفكك الدولة، كلها عوامل وضعت لبنان على حافة انتقال تاريخي. وفي هذا المشهد، طرحت القوات نفسها كبديل جاهز لقيادة مرحلة ما بعد الانهيار:

تطبيق الحياد كخيار وجودي

استعادة المؤسسة العسكرية كسقف وحيد للسلاح

إعادة بناء القضاء لا ترميمه

إنهاء الازدواجية العسكرية

وبالتوازي، فرضت القوات نفسها كإطار شرعي للمعارضة لا كحركة مواجهة.

سابعًا: القوات ودولة ما بعد المحور – خارطة الدور

مع بدء تراجع محور الممانعة، أحدث المؤتمر انتقالًا فكريًا واضحًا:

تقديم القوات كـ«نواة الدولة السيادية الجديدة»

استعداد حزب منظم لا طائفة مسلّحة

القدرة على جذب دعم دولي عبر خطاب متناسق مع المعايير العربية والدولية

وهو ما يفسّر تصاعد حضورها في النقاش الدولي حول مستقبل لبنان.

الخلاصة

لم يكن المؤتمر التأسيسي للقوات اللبنانية تجديدًا هيكليًا فحسب، بل نقطة ولادة جديدة للحزب ولدوره الوطني:

إنهاء زمن الحرب لا ذاكرة الحرب

تثبيت القوات كحزب دولة يدعو لاحتكار الشرعية للسلاح

قيادة مرحلة ما بعد المحور الإيراني–السوري

إنتاج عقد سياسي جديد يضع المسيحيين في قلب الدولة لا على هامشها

تعلن القوات اليوم أن مشروعها الوحيد هو الدولة، وأن بقاء الكيان اللبناني نفسه يتوقف على:

إنهاء الازدواجية العسكرية

حياد لبنان عن صراعات المحاور

تطبيق اتفاق الطائف كما أُريد له

ترسيخ دور الجيش كضامن وحيد للأمن

بهذا المعنى، لم يؤسّس المؤتمر حزبًا جديدًا فقط، بل أسّس هوية سياسية جديدة للبنان، وأعاد اللبنانيين إلى موقع الشريك لا المتفرّج، والفاعل لا المتلقي، ومهندس الدولة لا أسيرها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى