من الجامعات إلى البلديات: أفول نجم التيار العوني وعودة العافية إلى الجسم المسيحي في لبنان

بقلم: تادي عواد
لم يكن تراجع التيار الوطني الحرّ حدثاً مفاجئاً، بل مساراً تراكمياً بدأ منذ سنوات داخل الجامعات اللبنانية، وبلغ ذروته اليوم في صناديق الاقتراع. فبعد أن كان “التيار العوني” يحتلّ المشهد المسيحي منذ عام 2005، تتّضح اليوم ملامح مرحلة جديدة تُعيد توزيع التمثيل داخل الشارع المسيحي، وتفتح الباب أمام قوى سيادية ومستقلّة تلتقط نبض القواعد الشابة وتعيد الثقة بالعمل السياسي، بعد أن حوّل التيار العوني هذا العمل إلى مدرسة في الفساد والارتهان للخارج.
الجامعات أول من رفع الإنذار
منذ عام 2020، كانت مؤشّرات الانحسار واضحة داخل أروقة الجامعات. ففي جامعات كبرى مثل AUB وLAU وNDU، تراجعت اللوائح الحزبية التقليدية أمام صعود القوى المستقلة واللوائح السيادية.
الطلاب الذين شكّلوا يوماً الخزان الفكري للتيار، عبّروا عبر صناديق الاقتراع عن رفضهم للخطاب التبريري ورغبتهم في خطاب وطني جديد بعيد عن الزبائنية والتحالفات الإقليمية.
هذا التحوّل الشبابي لم يُقرأ جيداً في ميرنا الشالوحي، فاستمرّ التيار في خطابه التقليدي متجاهلاً دلالات المشهد الطالبي، قبل أن تُترجم هذه الموجة في الاستحقاق البلدي الأخير.
البلديات: سقوط الهيمنة في “المعاقل التقليدية”
شكّلت انتخابات عام 2025 اختباراً صعباً للتيار الوطني الحرّ. فبعد سنوات من الجمود، خاض التيار المعركة البلدية بخطاب الدفاع عن “الوجود”، لا بخطاب المبادرة.
في المقابل، تقدّمت لوائح القوّات اللبنانية والكتائب والمستقلّين في عشرات البلدات والقرى المسيحية، بل حتى في مناطق كانت تُعدّ “مقفلة” عونياً منذ عقدين.
النتائج أظهرت تراجعاً ملحوظاً في قدرة التيار على ضبط قواعده أو توحيد صفوفه، فيما شهدت لوائحه انقسامات داخلية وخلافات على الترشيحات. بعض الوجوه العونية التاريخية فضّلت خوض المعركة منفردة، ما عمّق صورة الانقسام وفتح الباب أمام لوائح منافسة للفوز بهوامش مريحة.
الأسباب العميقة للانحسار
الأزمة الاقتصادية وانهيار الثقة:
بعد الانهيار المالي عام 2019، لم يعد بإمكان التيار تبرير عجزه عن تحسين الأوضاع المعيشية، خصوصاً بعد تولّيه حقائب أساسية في الحكومات المتعاقبة. المواطن المسيحي الذي عانى من انقطاع الكهرباء وانهيار الليرة، حمّل التيار جزءاً كبيراً من المسؤولية.
التحالف مع حزب الله وتآكل الخطاب السيادي:
تحوّل تحالف التيار مع حزب الله من ورقة “تفاهم” إلى عبء سياسي. فالمزاج المسيحي، المتأثر بتداعيات الحروب الإقليمية والانقسام الداخلي، أصبح أكثر ميلاً إلى خطاب السيادة والحياد.
شخصنة القيادة وتراجع الكوادر:
حصر القرار بيد رئيس الحزب جبران باسيل خلق حالة استياء داخلي، وأبعد عدداً من القيادات الوسيطة التي كانت تشكّل حلقة وصل مع القواعد.
الجيل الجديد يرفض لغة “الزعيم”:
جيل ما بعد 17 تشرين الأول بات أكثر استقلالية وأقل انخراطاً في الاصطفافات الطائفية. التيار، الذي لم يجدّد لغته السياسية، فقد جاذبيته لدى الشباب.
عودة العافية إلى الجسم المسيحي
في مقابل هذا التراجع، استعادت الساحة المسيحية بعض توازنها. فصعود القوى السيادية والمستقلة لا يُقرأ فقط كـ“عقاب” للتيار، بل كتعبير عن إرادة تجديد داخل البيئة المسيحية نفسها.
الخطاب الجديد الذي يركّز على السيادة ومكافحة الفساد والحوكمة المحلية، أعاد الحماسة إلى الشارع الذي شعر طويلاً بالعجز. بل إنّ عدداً من البلديات المسيحية المنتخبة حديثاً بدأ فعلاً بتطبيق خطط إصلاحية بسيطة ولكن ملموسة، ما عزّز الثقة بالبدائل الجديدة.
المرحلة المقبلة: إعادة رسم التوازنات
المشهد المسيحي يتّجه نحو إعادة تشكّل واسعة. فـ“التيار الوطني الحر” لم يعد الحزب المهيمن، بل طرفاً بين أطراف عدّة.
في المقابل، تزداد فرص القوى السيادية في الإمساك بالمفاصل المحلية، تمهيداً لاستحقاقات أكبر كالانتخابات النيابية والرئاسية المقبلة.
لكن التحدّي الحقيقي أمام هذه القوى يبقى في قدرتها على توحيد الخطاب وعدم الانزلاق إلى صراعات شخصية قد تُعيد إنتاج مشهد الانقسام القديم.
زمن التحوّل الهادئ
ما يجري اليوم في القرى والجامعات ليس مجرّد تراجعٍ لحزب، بل تحوّلٌ اجتماعي داخل الوسط المسيحي في لبنان.
جيلٌ جديد يُعيد تعريف السياسة على قاعدة الكفاءة والسيادة، لا الزعامة والتبعية.
التيار العوني فقد بريق “التيار الشعبي” الذي حمله إلى الحكم، فيما استعادت الساحة المسيحية نبضها الطبيعي: تعدّدية، تنافس، ومساءلة.
إنّه زمن التحوّل الهادئ… حيث تُكتب ملامح مرحلة جديدة، من دون شعارات صاخبة، بل عبر صناديق الاقتراع.