حزب الله: أسباب الانهيار
بقلم جوزف ميلا – صحيفة الأوريان لو جور – 8 تشرين الثاني 2024
ترجمة صوفي شماس
هزت الضربات العنيفة التي وجهتها إسرائيل لحزب الله المشهد السياسي اللبناني. فالحزب الذي سيطر على الحياة السياسية الداخلية للبلاد من خلال ميليشياته المدجّجة بالسلاح، والذي شكّل مصدراً لسلطة الدولة الإيرانية، وجد نفسه عالقاً، بعد عام من الاشتباك العسكري المعلن “دعماً” لحماس، في فخ استراتيجيته، إذ أدى الاشتباك العسكري في الجنوب إلى دخول لبنان في دوامة من العنف بلغت ذروتها في تحول مفاجئ للوضع: إن “جبهة الدعم” قد أصبحت هي الجبهة الرئيسية. ومع تراجع حدّة العمليات العسكرية في غزة، وجد لبنان نفسه أمام واقع يتحمّل فيه هو وطأة المجهود الحربي الإسرائيلي. وبالتالي وجد لبنان نفسه في موقع غريب للاعب كان يعتقد أنه يستطيع الحفاظ على توازن الرعب «المتفق عليه» مع عدوه فإذا به يغرق في قرار الأخير المفاجئ بكسر قواعد اللعبة. فـ”معايير المواجهة” التي وُضعت بحكم الأمر الواقع بين حزب الله وإسرائيل من خلال الحدّ بشكل شبه ضمني للمنطقة التي تجري فيها الأعمال العدائية، والقوة النارية المستخدمة، ومن حيث المبدأ، الأهداف العسكرية الوحيدة التي سيتم استهدافها، قد خلقت الوهم بأن توازن الرعب بين قوى غير متكافئة قد تحقق.
وبالتأكيد، وكما هو الحال في أي منافسة، لا يمكن استبعاد التصعيد الذي لم يتم من جانب الراحل حسن نصر الله، الذي كان قد هدّد بالرد على أي زيادة في الأعمال العدائية بأخرى متوازنة مماثلة. هكذا تمّ احتساب تدرّج التصعيد، وفي غياب رادع حقيقي قادر على منع أي هجوم، كان من المقرر على الأقل أن يكون الرّد متناسباً. وحتى اليوم الذي اختل فيه هذا التوازن بسبب انتقال ساحة المعركة من غزة إلى لبنان، كانت إسرائيل تتعرض لضغوط من الرأي العام لإعادة النازحين من شمال البلاد إلى ديارهم، لكن الحرب في ذلك اليوم بدّلت مسارها.
فاجأ التحوّل الحربي الجديد للأحداث حزب الله. لقد تضمّن في الواقع خروجاً من مسرح العمليات البرّي وهو أمر لم يكن يتوقعه. فقد كان الهجوم من النوع الإلكتروني الذي أدى إلى القضاء على كوادر الميليشيا قبل تصفية كبار مسؤوليها. ورأى كثيرون في هذه الضربات التكنولوجية، التي من دون شك أذهلت الناس إلى أقصى حدّ، مثالاً على التفوق العسكري للدولة العبرية، وبالتالي على أسباب الكارثة. ورغم أن الهجمات الإسرائيلية شكّلت ما يسميه الاستراتيجيون “المفاجأة الاستراتيجية”، إلا أنه لا يجب جعلها السبب الوحيد للكارثة المأساوية التي حلّت بالميليشيا اللبنانية.
فقبل وقت طويل من وقوع الحدث، أصبح الخطاب السياسي لحزب الله أكثر جرأة إلى حد إظهار الثقة في القدرات الرادعة لوسائله العسكرية وفي قدرته على منع العدو من المغامرة على الأرض بمواجهة حربية.
لم تنبع المعادلة من مجرد كبرياء وغطرسة، إنما كان ذلك أقرب إلى قراءة مشوّهة للحقائق السياسية منه إلى ثقة مبالغ فيها بقدراته العسكرية. لم تكن تكنولوجيا إسرائيل ولا قوتها هي التي هزمت حزب الله؛ لقد كانت الأيديولوجية الخاصة بالميليشيات الشيعية هي التي هزمته، وذلك من خلال تشويه الواقع، وخلق حزب الله صورة خيالية بديلة لإسرائيل، أضعفت تصوره وعززت فيه القناعة بوجود عدو على وشك الانهيار، بما أنه تمّ وضع خطاب كامل لتصوير هشاشة الدولة العبرية وإمكانية هزيمتها.
عدم الاستيعاب
في الواقع، دأبت الخطابات المنتظمة للأمين العام لحزب الله، المدفوعة باستراتيجية النفوذ، على جعل الناس يؤمنون بقدرة القوة العسكرية التي لا تُقهر بفضل مشاركتها في الحرب السورية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومقابل هذا الخطاب المنتصر، لم تعد إسرائيل تبدو وكأنها دولة لا تُقهر، بل أصبحت ضعيفة للغاية، وكأنها على وشك السقوط.
كان الأثر الأول لخطاب حسن نصر الله هو “تغيير تسمية” إسرائيل. فهي لم تعد دولة أبرم معها لبنان اتفاقية هدنة واتفاقية لترسيم الحدود البحرية، بل أصبحت «كياناً»، وهو مصطلح لا يمكن أن يكون أكثر غموضاً ومراوغة. ولم يعد مواطنوها مواطنين بل أصبحوا “مستوطنين”. أما جنودها، فهم المجنّدون الذين يحملون “جنسيات أجنبية” الذين سيهربون بسرعة من ساحة المعركة.
كان هذا الكيان «هشّاً»، «أهش من نسيج العنكبوت»، «يقف على ساق ونصف»، قابل للتدمير في «دقائق معدودة»، «بضغطة زر». من الناحية السياسية، بالنسبة إلى حزب الله، إسرائيل ليست موجودة: إنها “فلسطين المحتلة” وحسب. باختصار، بالنسبة إلى الحزب، إنه وضع سياسي تم تجميده في العام 1948 ولم يفعل الوقت سوى إطالة أمده. إن المشروع الخطابي لزعيم حزب الله سيساهم في التجاهل التام لواقع إسرائيل، وفي إفراغ الأخيرة من جوهرها، وبطريقة ما، إلى “تغيير تسمية” الدولة العبرية. في النهاية، كان كل ما تبقى من تمثيل لإسرائيل، وما سعى الحزب إلى فرضه، هو وَهمٌ يستطيع الآن أن يهاجمه، دون خوف، مقاتلو حزب الله البواسل، الذين حفّزهم خطاب زعيمهم وإيمانهم بالانتصارات التي توفرها العناية الإلهية.
مات مشروع حزب الله العسكري، ليس بسبب هجمات إسرائيل على الحزب، بل بسبب أوهام الحزب نفسه بشأن عدو استهان بثقله واتساقه، من خلال اللغة التي تحدث بها عنه. إن الإفراط في تسليحه، إضافة إلى تصوّر خاطئ لتوازن القوى الاستراتيجي، سيطر على أذهان الميليشيات الشيعية ودفعها إلى عدم التماثل الأساسي الذي ميّز العلاقة مع إسرائيل.
على هذا الانتفاخ اللغوي بُنيت نظرية الردع التي تبين أنها وهم ومصدر خيبة أمل مأساوية. قال ألبير كامو: “إن تسمية الأشياء بشكل سيئ تساهم في تعاسة العالم”.
العزلة الاستراتيجية
بعيداً عن الخطاب، كانت الاستراتيجية التي تمّ اختيارها ضد إسرائيل هي التي حاصرت الميليشيا في نهاية المطاف في وضع لا سبيل للخروج منه. فمن دون تشاور، ويمكن القول أيضاً من دون تحضير، أعلن زعيم حزب الله دعمه للهجوم الدموي الذي نفّذه قائد حماس في غزة. وكما قرّر القيصر عبور نهر روبيكوني، ربط زعيم حزب الله مصير بلاده بمصير غزة. لم يكن هناك قرار أخطر من هذا القرار. هل ظنّ حسن نصر الله أن الحرب ستكون قصيرة؟ هل كان يعتقد أن التصعيد على الجبهة اللبنانية سيتم احتواؤه وحصره في تبادلات محدودة من شأنها أن «تثبّت» العدو في مساحة ضيقة؟ يبدو أنه كان يعتقد أن “جبهة الدعم” ليست جبهة كاملة. ما هو المنطق الذي ساد ليجد لبنان نفسه منخرطاً في أكثر دوامة مأساويةً يمكن للمرء أن يتصورها؟
لا شك أن هناك دافعين: الأول عسكري ويعود إلى “وحدة الجبهات”، وهو النهج الذي بناه بصبر الجنرال الإيراني قاسم سليماني، الذي تخيّل تطويق إسرائيل بدءاً من لبنان إلى غزة عبر الضفة الغربية ومن اليمن إلى الجولان مروراً بالعراق. انخرط زعيم الميليشيا اللبنانية في هذا المشروع، واستقبل أبطاله مراراً وتكراراً في معقله في الضاحية الجنوبية لبيروت. حتى ولو فوجئ بقرار السنوار فتح الأعمال العدائية، فهل كان ليتمكن من التراجع، وهو الذي ارتبط مشروعه السياسي الشامل بانتصار الامبراطورية الإيرانية؟
أما الدافع الثاني فهو استراتيجي، ويعود إلى أن حسن نصر الله اعتقد اعتقاداً راسخاً أنه من خلال ترسانته وصل إلى نقطة توازن رادعة مع عدوه، لدرجة أنه اعتقد أنه قادر على إبقاء إسرائيل في مأزق عن طريق التهديد. وإن لم يخف العدو، فستكون المواجهة جبهة ضد جبهة، وقرية ضد قرية، ومدينة ضد مدينة. وفي حال التصعيد، لن يتردد في الذهاب إلى «أبعد من ذلك»، إلى ما وراء كاريش وحيفا وتل أبيب… لكن… لم يكن التهديد كافياً ولم يجدِ الردع نفعاً. فقد اختارت إسرائيل في حربها المجنونة القيام بحملة سحق عقابية، مصحوبة بمفاجآت استراتيجية، ليس أقلها القضاء على التسلسل القيادي لحزب الله والقضاء على زعيمه وكوادره.
إن كان حسن نصر الله صمد طويلاً بخطبه وعنّف إسرائيل بتهديداته، كان عليه، كي يحافظ على هذا المركز المهيمن، أن يفرض نفسه على المجتمع اللبناني، ويسيطر على ما تبقى من دولته. فكان هذا هو سبب سعيه إلى توسيع نفوذه. كان هذا أيضاً، معنى الاتفاق المنشود بين الشعبوية الغوغائية ذات الطابع الديني لحزب الله والشعبوية الانتهازية للعونية ذات الهدف التجاري. فمنذ ذلك الحين، سيطر على الأعمال الداخلية للدولة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية وحدودها ومينائها ومطارها، بعد أن بنى مجتمعاً موازياً في المناطق الخاضعة لنفوذه، مدّعياً لاهوتاً سياسياً من عصر آخر يلهم ميليشيا مدججة بالسلاح في خدمة أغراض خارجية، لم تتراجع قط عن أي أعمال عنف أو تصفية داخلية.
وصل حسن نصر الله على رأس حزب الميليشيا إلى ذروة السلطة، لدرجة أن رجلاً واحداً، تمكّن وبشكل غير مسبوق، في 8 أكتوبر 2023، من إعلان الحرب على دولة إسرائيل.
جوزف ميلا
أستاذ العلاقات الدولية في Essec- باريس. الرئيس السابق للجامعة الكاثوليكية في باريس والنائب السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة القديس يوسف