“حلف” جنبلاط – جعجع بمواجهة “شركة” باسيل – الحريري
ينطوي الشكل الذي خرجت به التشكيلة الحكومية، على مآرب أصبحت واضحة. لا يتوانى ثنائي الحريري – باسيل عن تأكيدها، محطّة بعد محطّة. الهجوم واضح منذ البداية. والهدف الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية.
مداولات سرّية
تركّز الهجوم على القوات لتحجيم حصتها الوزارية. وهذا ما نجح باسيل في فرضه على الحريري. كما نجح بفرض جملة شروط أخرى عليه. لكن السؤال الأساسي، هل فعلاً باسيل فرض على الحريري ذلك؟ أم أن الحريري تظاهر بأنه أُرغم على هذه التشكيلة، وهو يريدها ضمناً؟ في مفاوضات سابقة بين الرجلين، ويوم وقع اصطدام عرضي بين الحريري وباسيل على الصلاحيات، لوح باسيل للحريري بأنه قادر على الكشف عن مداولات سرّية بينهما، حول ما كان يتناول به جنبلاط وجعجع. ويعتبر أنه يريد أن يطوّعهما أو يريد “زكزكتهما”. وهذا تعبير أساسي عن ما يفكّر فيه الحريري بينه وبين نفسه، وانعكس في التشكيلة الحكومية. إذ ضغط أكثر من مرّة على القوات، واضعاً إياها تحت الأمر الواقع، ومشاركاً في زرع ما يعتبرها جنبلاط خناجر في ظهره. وهذا عبّر عنه أكثر من مسؤول اشتراكي. إذ اعتبروا أن الخناجر زرعت في الظهور من قبل الأقربين والأبعدين، ما يعني أن المعركة حتمية وقريبة.
صراعات مناطقية
قرأ جنبلاط الإشارات باكراً. ولذلك، أشار إلى ما حصل من صفقات في باريس 2. والمقصود بباريس 2، هو اللقاءات الأخيرة التي عقدها الحريري مع باسيل، في العاصمة الفرنسية، قبل أيام على ولادة الحكومة. والتي، على ما يبدو، جرى فيها تعميد اتفاق المصالح بينهما، والذي يتقدّم على كل الحسابات الأخرى. في هذا الوقت، كان جنبلاط يفكّر في كيفية حماية الحريري، وتحصين وضعه وموقعه، خشية حدوث أي تطورات تطاله سياسياً. ركّز على اتفاق الطائف والحفاظ عليه. ويتبّين أن الحريري لا يهتمّ به بقدر ما يهتمّ باستمرار التسوية. قد يكون الحريري محقاً في خياراته، في ظل انعدام أي خيار آخر، وفي ظل غياب الدعم الخارجي، وعدم وجود رؤية سياسية تقوم على مبدأ التوازن. فمنطق المصلحة والحفاظ على الوجود، بالنسبة إليه يقتضي ذلك، لأن لا طريق إلى السلطة إلا عبر باسيل وحزب الله.
كان جنبلاط يفكّر من منظار أوسع، وكان قد التقى مؤخراً الرئيس فؤاد السنيورة، جرى فيه التشديد والتوافق، على وجوب الوقوف خلف الحريري، وحماية موقعه وصلاحياته، انطلاقاً من الحفاظ على اتفاق الطائف. لكن الحريري كان في مكان آخر، عقله وقلبه في مكان بعيد جداً.
ليس ما يشفع في ولادة الحكومة، سوى أنها موجودة فقط. ستكون عبارة عن حلبة صراع وتصفية حسابات. ليس بين رئيسها وكتلها الكبرى. بل بين القوى المختلفة مناطقياً، بمعنى أنها ستعمل على نقل الصراعات المناطقية، والحسابات الشعبية والانتخابية، إلى طاولة مجلس الوزراء.
الصراع سيكون مفتوحاً بين غسان عطا الله ووزراء الإشتراكي. وبين أبو فاعور وشهيب مع صالح الغريب. ووزراء القوات مع وزراء التيار. ووسط تلهّي هؤلاء بصراعاتهم الضيقة، سيكون حزب الله حاكماً بأمر البلاد في سياستها الخارجية. ويكون ثنائي الحريري – باسيل عاملاً على عقد صفقات مصلحية بالتراضي. فيما باسيل سيتفرّغ في وزارة الخارجية إلى ترتيب علاقاته، انسجاماً مع طموحاته الرئاسية، وما تحت هذا السقف، من حسابات سورية، تبدأ بإعادة الإعمار، ولا تنتهي بملف اللاجئين. اللاجئون الذين تركهم سعد الحريري، وتخلّى عن وزارة الدولة لشؤونهم. ربما كان يريد التقليل من “وجع الرأس”، أو الانشغال بهم، أو حمل همومهم، فأحالهم بكليتهم إلى سطوة باسيل. إذ تخلى عن وزارة الدولة لشؤون اللاجئين، لصالح اختيار باسيل صالح الغريب لها، والمعروف بولائه للنظام السوري. والذي ستتكامل سياسته “الإنسانية” افتراضاً مع سياسة باسيل الخارجية.
اليد الروسية التي كانت فاعلة في إخراج التشكيلة الحكومية إلى النور، سيسعى الجميع إلى تقبيلها. وليست التلزيمات بالتراضي سوى أول الغيث على هذا الطريق، الذي بدأ بالزحف نحو الخطّة الروسية لإعادة اللاجئين والتي لم تحظ بأي غطاء دولي.
التضحية باللاجئين
وضع وزارة شؤون اللاجئين في يد محسوب على التيار الوطني الحرّ والنظام السوري لن يكون تفصيلاً. هو عبارة عن صفقة كبرى، وتحول خطير في سياسة الحريري، والذي يعتبر البعض أنه يريد أن ينأى بنفسه عن كل ما يرتبط بالملف السوري، لحماية موقعه والحفاظ عليه. خصوصاً، أنه كرر قبل فترة بأنه لم يغيّر موقفه تجاه النظام. ولكن بعد إعادته إلى الجامعة العربية، سيكون لكل حادث حديث. خسر الحريري رمزية طروحاته السابقة، لأنه خسر شارعه. فأصبح مضطراً إلى تقديم التنازل تلو التنازل للفوز بما يطمح إليه. جعجع وجنبلاط يتعرّضان للحملة نفسها التي تعرَّض لها الحريري، وخسر أمامها أو انكفأ، والتي أسهمت في إحباط الشارع السنّي.
شارع الوضوح
ليس أمام هذا الثنائي سوى طريق وحيد، للعودة إلى الثوابت وخلق التوازن، الملف الاقتصادي الاجتماعي، والعمل مع النقابات العمالية، والعودة إلى الشارع للعودة إلى الوضوح، ورفع الشعارات القديمة ليس لمواجهة حزب الله، بل لمواجهة هزيمة هذا الجمهور أمام حسابات المصالح. وهذه أخطر من أي حسابات سياسية أخرى. صحيح أن أي تحرك من هذا النوع، يحتاج إلى شارع واسع، أو بيئة حاضنة قادرة على خلق التوازن الشعبي. أي طرح من هذا النوع، والشروع في سلوك طريقه، كفيل باستنهاض شارع محبط، خارج منطق الطوائف والمذاهب. بتكرار لرمزية كمال جنبلاط أيام الحركة الوطنية، والتي قادها زعيم درزي بأكثرية سنية شيعية متحالفة مع قوى مسيحية خارجة على منطق الإنغلاق.
وإذا كان الشكل الجديد للتسويات، يعيد إنتاج تسوية قديمة سنّية مارونية، تتمثل بالحريري وعون، والمستحكم بها هو جبران باسيل.. فهي بلا شك تحاكي ثنائية بشارة الخوري ورياض الصلح، والتي كان حينها مستحكم بها “السلطان” سليم الخوري. هذه الثنائية أسست للثورة البيضاء، وعمّدت تحالف كمال (جنبلاط) وكميل (شمعون)، فأسقط بشارة الخوري. وبعدها أعيد إنتاج تركيبة مختلفة، أسست لثورة العام 1958، قامت على منطق الاستفزاز الدائم، والتطويق المستمر، في قانون انتخابات كميل شمعون الشهير في العام 1957، والذي يشبه من ناحية النتائج، القانون الانتخابي الأخير، الذي أجريت على أساسه انتخابات 2018. وما سيشهده لبنان في ظل هذه الحكومة، سيكون مشابهاً لتلك الحقبة. وإذا ما كان يومها نعيم مغبغب، فاليوم ثمة أكثر من نعيم، سيمثّل جحيماً للجميع. من تعزيز الانقسام الدرزي ومشيخة العقل، إلى غارة المختارة، وما بعد أحداث الجاهلية. بموازاة محاربة وزراء القوات، وتطويقهم ومنعهم من تحقيق أي إنجاز في وزاراتهم.
المصدر : منير الربيع – المدن