الحاكم والوريث والفراغ العظيم (بقلم النائب بيار بو عاصي)
حَكَم الامبراطور هادريان روما بين عامي 117 و138 ب.م.
بدأ حكمه بهاجس المحافظة على رأسه وتاجه فأمر بقتل اربعة من خيرة جنرالات جيشه كي يتقي شر انقلابهم عليه.
مع تقدمه بالعمر وبغياب وريث، تبنى هادريان الشاب انطونان ليخلفه بعد مماته. لكن انتقال السلطة يبقى مغامرة محفوفة بمخاطر الطامحين، فقتل الامبراطور ابن شقيقه كي لا ينافس انطونان على وراثة عرش الامبراطورية.
انها لعبة السلطة وملعب الاباطرة حيث لا مكان للمشاعر ولا للرحمة.
في ذلك الزمان ولد لعائلة يونانية في ناحيةٍ من الامبراطورية الرومانية، في صعيد مصر، الطفل كلوديوس بطليموس.
لم يكن بطليموس ملمّاً ولا مهتماً لا بالسياسة ولا بصراعات السلطة. انصبَّ كل اهتمامه على العلوم وبقي مؤلَّفه “المجسطي” إرثاً فريداً للانسانية فتربَّع على عرش علم الفلك لأكثر من ألف عام.
توقف بطليموس في ما توقف على مشاهدات الاغريق واستنتاجاتهم ومنها كوكبة ذكرها هوميروس اسمها “كوكبة العواء” La constellation du Bouvier.
سمّيت كذلك لأن الاغريق قد شبهوا كواكبها السبعة بقطيع ابقار يقوده راعٍ عبر الفضاء. أما العواء فهو عواء كلب الراعي في مخيلة العلماء.
في التشبيه كثير من الرومانسية كأنما المجرات قرى مترامية والفضاء سهلٌ للابقار الوديعة ورعيانها.
ما لم يدركه الاغريق هو أن كوكبة العواء هي آخر كوكبة قبل الدخول في أعظم فراغ في الكون والمعروف بالخواء العظيم وبالانكليزية The Great Nothing.
كيف تشكل هذا الفراغ وكيف تصحّر الفضاء حتى غابت عنه المادة؟
للاجابة عن السؤال لا بد من عبور 700مليون سنة ضوئية، من “كوكبة العواء” إلى كوكب الارض وتحديداً الى فرن الشباك، امام ابواب مدرستي الفرير.
كان في صراخ الباعة الجوالين امام المدرسة شيء من صراخ راعي العواء البعيد وفي حركة الاولاد شيء من القطيع. بالاضافة الى الكعك والبريوش والكرابيج، كان بائعٌ يتوجه الى المخيّلة، ينافس بها غريزة الاكل ويختطف القروش من أمام بائعيه. مليون بالون، كل واحد لون كانت الصرخة القاضية التي تستقطب الاطفال كمغناطيس الفضول.
ان يكون الواقع أقلّ ابداعاً من الحلم لا يغير في مكانة الحلم شيئاً. كلما ازدادت المسافة بين الحلم والواقع زادت قيمة الحلم وتراجعت قيمة الواقع.
تخرُج البوالين كالمارد من قمقمٍ ملأه البائع بالماء والصابون حيث ينفخ الطفل نفخة سحرية تحوِّل المزيج الى فقاعات.
لم يخطر يوماً على بال طفل تعداد الفقاعات ومقاضاة البائع ان قل العدد عن المليون أو تطابقت الالوان. إنه التواطؤ البريء بين الطفل وبائع الاحلام.
على بعد 700مليون سنة ضوئية من مدرستي، ومن كل مدارس واطفال الارض، حصلت ظاهرة مشابهة لفقاعات الصابون نتج عنها اكبر خواء في تاريخ الكون، يبلغ قطره 250مليون سنة ضوئية.
يجمع العلماء بأن خواءً بحجم الخواء العظيم لا يتشكل تلقائياً بل ينتج عن التقاء واندماج فراغين من احجام مختلفة فيصبحان فراغاً واحداً اكبر. والامر ذاته يتكرر مع الفراغ الجديد، وصولاً الى الفراغ العظيم.
الظاهرةُ مشابهةٌ لما يحصل مع فقاعات الصابون الملتحمة، حيث الفراغ قادرٌ على الاندماج بفراغ آخر ليشكِّلا معاً فراغاً اكبر، فيصبحان وعاءً جديداً يحتوي اللاشيء.
انها الظاهرة العونية في لبنان.
انطلقت من فراغ متلون بأبهى الالوان وشتّان ما بين ملاءة الرؤيا وفراغ الوعود.
كل مشروع صادق يكون ممتلئاً من نية صادقة، دليلها الثبات والالتزام حتى التضحية. اما الوعود كوعود التحرير والغاء السلاح غير الشرعي والسيادة ومكافحة الفساد والاصلاح والتغيير وعودة الدولة الى الدولة والوطن الى المواطن والحقوق للمسيحيين ومحاربة الفساد ووقف الهدر وتأمين الكهرباء والانتهاء من المحاصصة والمحسوبيات…
مليون فقاعة صابون فارغة وكل واحدة بلون مختلف ولكنها ليست الا فقاعات صابون هزيلة، فارغة، تفقع من دون صوت او صدى عند الاصطدام باول حاجز. اما اذا التقت فقاعات اخريات فيبقى الفراغ فراغاً ولكن بحجم أكبر.
قيمة اي ظاهرة سياسية او مجتمعية تبقى في مضمونها لا في حجمها ولا في ألوانها.
أما قطع رؤوس المنافسين والتبني للتوريث فهو قعر الانحطاط كأنّما المجتمع مجرد مشاهد لمباراة لعبة السلطة الانانية القاتلة.
كلما استمرت هذه الظاهرة كلما ترسخ شعور خواء الامعاء وكلما ازداد العواء من جوع وخوف وقلق على المصير.
الظاهرة العونية لعبة سلطة فارغة على تخوم خواء كبير. انها اللاشيء العظيم A Great Nothing.