البطريرك الراعي وإعادة المسيحيين إلى بوصلتهم غرباً وعرباً
دوماً، وعندما كان يشرد سياسيو الطائفة المارونية إلى خيارات لا تتلاقى مع نهجهم التاريخي وتوجهاتهم الثابتة، كانت الكنيسة المارونية تلعب دور إعادة التصويب.
منذ أيام، يستشعر البطريرك الراعي الخطر، شعر أن دور طائفته المؤسِسة للبنان يتقوض. يرى أن كل المؤسسات المسيحية، والمجتمع المسيحي المزدهر، يفلس ويتجه نحو الهجرة. والمؤسسات الصناعية والتجارية تقفل أبوابها. ما يعني انتهاء علّة وجود المسيحيين ودورهم المساهم بشكل رئيس في ازدهار لبنان.
إزاء هكذا خطر وجودي، لا يمكن الاستسلام أو السكوت أو التردد. ولذلك اتخذ البطريرك قراره، الذي -حسب المصادر- لا رجعة عنه على الإطلاق. وسيتعزز من خلال مواقف متكررة، ويصاغ أكثر في زيارة قريبة سيجريها إلى الفاتيكان.
بطاركة التاريخ والرؤساء
يريد الراعي تسجيل إنجازٍ لنفسه، على غرار البطاركة الآخرين. فالبطريرك الياس الحويك، كان له إنجاز نشوء دولة لبنان الكبير. البطريرك أنطون عريضة كان بطريرك الاستقلال. البطريرك بولس المعوشي وقف ضد سياسة الأحلاف التي انتهجها كميل شمعون، وفي ثورة الـ58 وقف ضد الحرب. البطريرك خريش وقف ضد الحرب الأهلية. البطريرك نصر الله صفير أنهى الحرب الأهلية، وشارك بصوغ اتفاق الطائف، واحتضن الحركة المعارضة والاستقلالية ضد النظام السوري.
اليوم يأخذ الراعي المبادرة لإعادة لبنان إلى طبيعته التاريخية.
منذ نشوء لبنان الكبير، كان دور الطائفة المارونية توكيد صلة الوصل بين الشرق والغرب. وهو الدور الذي يلعبه رئيس الجمهورية التاريخي، من إميل إده الذي لم يعادِ الشرق، وبشارة الخوري الذي شارك في ميثاق الجامعة العربية، وكميل شمعون الذي تصدى لعبد الناصر، لكنه تحالف مع العراق والسعودية، وفؤاد شهاب الذي أبرم الصفقة التاريخية مع عبد الناصر، فضمن استقراراً سمح له ببناء الدولة والإدارة باستقلالية مدعومة من الغرب ومؤيَّدة من مصر الناصرية في آن واحد، وشارل حلو الذي استأنف المنهجية ذاتها. وكذلك كان الأمر مع سليمان فرنجية، الذي عزز علاقاته الخليجية مع نهضة تلك الدول، وفتحت الأبواب للبنانيين للذهاب إلى الخليج.
من سركيس إلى عون
الياس سركيس لم يخرج على مقررات اتفاقي الرياض والقاهرة، بتسيير قوات الردع العربية. وعلى الرغم من خلافه مع السوريين، لم يشذ عن الحاضنة العربية. بشير الجميل كان حريصاً على علاقاته العربية وزار المملكة العربية السعودية تدعيماً لمشروعه الرئاسي. أمين الجميل حافظ على علاقة مع العرب، بل وعلى استمرار العلاقة مع النظام السوري.
ميشال عون وحده لم ينضو في إطار اتفاق الطائف، وعاد ودخل في صراع مع سوريا. الياس الهراوي نفذ اتفاق الطائف بصيغته السورية. إميل لحود ارتمى بالحضن السوري، وإن لم يذهب بشكل مباشر وكامل إلى إيران. ميشال سليمان وقف بالوسط وظل أميناً على العلاقات العربية.
ميشال عون هو الوحيد الذي ذهب باتجاه خيار على حساب آخر.
قرار فاتيكاني – غربي
عندما انتُخب عون، راهن كثيرون على أنه سيتخذ موقفاً متوازناً، لكنه خيّب ظن السنّة ونصف الموارنة والكنيسة المارونية. وصل لبنان إلى ما وصل إليه. واليوم، تتعاظم المراجعة المسيحية للأخطاء، التي تعتبر أن الخيارات التي اتخذت في السنوات الأخيرة كانت عبثية وكارثية. لذلك، لم تعد بكركي قادرة على تغطية هذه السياسة. الموقف الذي أطلقه الراعي يتماهى مع طلب فاتيكاني حول استعادة الموارنة للعب دور التواصل.
الخطأ كان في حصر رئاسة الجمهورية بخيار من أربعة أشخاص. وذلك أدى إلى اختزال المؤسسات بأشخاص. فكان الخطأ أكبر مما هو متوقع، ولا يمكن تصحيحه إلا بإعادة دور المؤسسات في لبنان. هناك قرار فاتيكاني غربي واضح، بإعادة المسيحيين إلى دورهم التواصلي. بمعنى أن كل الزعامات تغادر، وتبقى بكركي التي يلقى على عاتقها تصحيح البوصلة.
وكما وقف البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في مواجهة النظام السوري، الذي أراد ابتلاع لبنان وقضمه.. يقف اليوم البطريرك الراعي بوجه ضم لبنان لإيران.
يحاول الراعي استعادة الدور التاريخي للكنيسة، واستعادة العلاقات مع الدول العربية. يتلاقى ذلك مع حاضنة سنّية كبيرة لمواقف البطريرك، في إشارة إلى أنه غير متروك أو مستفرد. الهدف واضح: إعادة صياغة دور لبنان وتعزيز مبدأ الحياد، وهو الدور الذي لعبه المسيحيون منذ العام 1922 بعد إنتخاب أول رئيس للجمهورية إلى ما قبل ميشال عون.
منير الربيع _ المدن