لبنان يدفع ثمن الحرب السورية
لبنان اليوم على أعتاب تأميم أو تقسيم. استفاد لبنان تاريخياً من أزمات العرب، ومن عمليات التأميم التي سادت المنطقة العربية في الخمسينيات والستينيات. كان مقصداً مالياً واستثمارياً لأصحاب رؤوس الأموال. كذلك، استفاد لبنان كثيراً من الأزمة السورية، سواء من أموال رجال الأعمال السوريين والتابعين للنظام السوري، الذين وجدوا في المصارف اللبنانية ضالتهم، أو من خلال المساعدات التي وصلت إلى اللاجئين السوريين من الجهات الدولية المانحة. كما استفاد معنوياً وسياسياً من وجود اللاجئين على أراضيه (الحرص الدولي على استقراره).
اليوم، يدفع لبنان ثمناً متأخراً لكل ذلك. وهو على أعتاب مرحلة تتغير فيها معالم الأنظمة السياسية في المنطقة كلها.
الليرتان على إيقاع واحد
لذلك يعود لبنان إلى خيار ما بين معادلتين. إما التأميم، وهو طُرح بشكل موارب في بعض الصيغ الاقتصادية للخروج من الأزمة الحالية، والتي تتلخص بسيطرة حزب الله وميشال عون على القطاع المالي وتطويع القطاع المصرفي، وصولاً إلى الحديث عن دمج المصارف وتصغير عددها إلى خمسة مصارف فقط. وإما التقسيم، وهو مشروع يمشي بالتوازي مع المشروع الأول، إنطلاقاً من إعادة فرز سياسي كامل في المنطقة من سوريا إلى العراق. فتعود لغة التقسيم، والتي يتم تلطيفها سواء بالفيدرالية أو باللامركزية المالية والإدارية الموسعة، والتي في سبيلها تفتح معارك مالية واستثمارية في أكبر القطاعات المالية والمصرفية، والكهرباء، والنفط وغيرها.
عمر الأزمة اللبنانية سنوات طويلة. وهي تعود إلى أسباب عديدة، منها سوء أحوال النظام وآلية عمله. ثانيها الفساد، وثالثها ارتباط لبنان بملفات المنطقة المختلفة. الأسباب المباشرة للانهيار الحالي، والذي بدأ قبل أشهر، تعود إلى الأزمة السياسية الاستراتيجية في كل المنطقة. فيعيش لبنان على الإيقاع السوري. ولذلك، نرى الترابط المتين في انهيار الليرتين السورية واللبنانية أمام الدولار الأميركي.
استنزاف البلدين
بدأ المؤشر الخطير لهذه الأزمة عند استقالة الرئيس سعد الحريري من المملكة العربية السعودية. يومها حصلت عمليات كبيرة لسحب الأموال ووقف الاستثمارات في لبنان. واستمرت المؤشرات الخطيرة بالتفاقم حتى بدأت الأزمة بالتعمق أكثر في شباط العام 2019. يومها بدأ يسري كلام في قطاعات مالية ومصرفية بأن لبنان مقبل على أزمة كبيرة. استمر أصحاب رؤوس الأموال بتحويل أموالهم، وكانت الاستثمارات قد توقفت. في صيف العام 2019، عاش النظام السوري أسوأ أيامه على الصعيد المالي والاقتصادي. يومها صوّر بشار الأسد بأنه يستنسخ “تجربة الريتز كارلتون” مع الكثير من رجال اعمال النظام، وأجبرهم على دفع نسب من أرباحهم وأموالهم الطائلة لصالح الخزينة السورية. بدأت هذه العمليات في آب العام 2019. وعندها، سحبت كتل نقدية كبيرة من المصارف اللبنانية من قبل رجال أعمال سوريين، بعضها تم تحويله إلى خارج لبنان، وتحديداً إلى أوروبا. وبعضها الأخرى تم أخذه نقداً إلى سوريا لرفد خزينة النظام المتداعية.
كانت اللعبة المالية في لبنان من أهم مقومات صمود النظام السوري، صمود استنزف البلدين، وأوصل إلى إنهيار متكامل فيهما. لذلك مع بداية ثورة 17 تشرين، كان الحديث في لبنان عن الأموال التي سحبت من المصارف قبل هذا التاريخ. لكن ما لبثت اللهجة أن تغيرت وأصبح التركيز على الأموال التي سحبت بعد 17 تشرين. فقبل 17، معظم الأموال كانت رؤوس أموال سورية، بالإضافة طبعاً إلى رؤوس أموال لبنانية تم تهريبها إلى الخارج.
ثمن الحرب السورية
صراع النظام السوري مع رامي مخلوف، والإستيلاء على شركة سيرياتيل، ومنعه من التعامل مع مؤسات الدولة السورية لخمس سنوات، بالإضافة إلى الحجز على أصوله في المصارف، ليس بعيداً استراتيجياً عن محاولة استنساخها في لبنان، من خلال جملة اقتراحات سقطت حتى الآن، هي الكابيتال كونترول والهيركات، وصولاً إلى اقتراح دمج المصارف. أغلب المصارف السورية الخاصة، هي مصارف لبنانية فتحت لها فروعاً في سوريا، كبنك عودة، لبنان والمهجر، فرنسبنك، بيبلوس. وفي كل هذه المصارف ثمة أصول لرامي مخلوف، تم تجميدها.
وبطبيعة الحال، سيكون لذلك انعكاس مباشر على لبنان. هذا من دون الحاجة إلى الربط في سوق الدولار بين البلدين، أو تهريب المحروقات والمواد الأساسية. طوال تسع سنوات، دمّرت سوريا عسكرياً وبشرياً وديمغرافياً. اليوم، يتم سحق شعبها بكل أطيافه مالياً ومعيشياً. لبنان لم يدفع ثمناً عسكرياً للأزمة، على الرغم من انخراطه فيها. لكنه يدفع الثمن المالي والاقتصادي، ويسير على خطى سوريا من دون الحاجة إلى معارك عسكرية.
حزب الله وحكومته
كرر ديفيد شينكر مواقفه من الأزمة اللبنانية. وضعها عند نقطة واحدة: الكرة في ملعب اللبنانيين، إما ترسيم الحدود أو استمرار الأزمة. والمقصود بـ”ترسيم الحدود” هو تسوية شاملة، تقدم إيران فيها تنازلات أساسية. ومهما بلغ حجم التنازلات، فحتماً أن لبنان كما سوريا لن يحافظ على بنية نظامه السياسي كما كانت. حزب الله منذ البداية كان لديه مشروعه، وهو المشروع الأقوى. إما التطور في العمل السياسي للسيطرة على الدولة والتأثير في بنية وتركيبة النظام، من خلال إجراءات متعددة، نجح في تحقيق الكثير منها، ويدفع مع اللبنانيين ثمن استعصاء حصول تفاهم إيراني أميركي.. وإما بحال طرح تغيير البنية اللبنانية برمّتها والإطاحة باتفاق الطائف، واللجوء إلى صيغة جديدة، سيكون وضعه مكرساً سياسياً ودستورياً. وفي حال تغلّبت رؤية الفيدرالية، فأيضاً سيكون الرابح الأكبر، لأنه صاحب الطائفة الأكثر عضداً وتنظيماً، وصاحب أكبر شعبية تلتف حوله، ويبسط سيطرته على أهم منطقتين إستراتيجيتين في لبنان، الحدود مع فلسطين المحتلة والحدود مع سوريا.
في المقابل، فإن المعارك ستبقى مفتوحة على تخريبٍ داخل الساحتين السنية والمسيحية. تخريب يتخذ أشكالاً متعددة سياسياً، شعبياً، ومالياً. وفي هذا الوقت، يجمع أكثر من طرف لبناني على أن لا بديل عن هذه الحكومة في الوقت الحالي. وبالتالي، ستشرف هذه الحكومة على المتغيرات الكبيرة، بالتزامن مع خوضها للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي. هذه المفاوضات ستكون مرتبطة بملفات سياسية إيرانية أميركية. إذا ما تسهّلت، يمكن للبنان أن يبرم اتفاقاً مع الصندوق. ولكن لن يحصل على أكثر من ثلاثة مليارات دولار، لن تكون كافية لإخراجه من أزمته. وبحال استمر التصعيد السياسي بين الطرفين، سيبقى حزب الله في مأمن، طالما أنه قال إنه يوافق على التفاوض مع صندوق النقد بشرط أن لا يطال السيادة. يعرف حزب الله أن شروط صندوق النقد قاسية، وستطاله وتطال مناطق نفوذه ومعابره. عندها سيتوقف التفاوض مع صندوق النقد، ويعود إلى خيار “السوق المشرقية”.. وتستمر الأزمة طويلاً.
ثلاثة مؤشرات ووجهة جديدة
ستشهد سوريا متغيرات كبيرة كما لبنان. سيدفع اللبنانيون كما السوريين ثمن هذه المتغيرات. وفي هذا الوقت، حصلت ثلاثة مؤشرات لافتة لبنانياً. الأول، تلقى لبنان رسالة من ممثل أمين العام الأمم المتحدة أن لا حرب إسرائيلية على لبنان. الثاني، تلقى رياض سلامة دعماً جديداً من الخارج ومن الداخل، وتحديداً من حزب الله، لعدم إقالته.. كي لا يتم تعيين آخر مكانه غير معروف النهج والتوجه. لا سيما أن حزب الله استفاد كثيراً من سلامة، وكذلك أصحاب رؤوس الأموال السوريين المحسوبين على النظام. وقبل فترة، كان هناك طلب دولي لإقفال أحد البنوك المرتبط بسوريا، فنجح سلامة في تجنّب هذه الخطوة. وهي تحسب له لدى محور الممانعة. أما المؤشر الثالث، فهو الخلاف بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ على ملف خطة الكهرباء ومعمل سلعاتا، والذي انعكس كلاماً انتقادياً من بعض نواب التيار. هذا ليس أكثر من عملية ابتزاز جديدة يخوضها التيار الوطني الحرّ ضد حزب الله، عنوانها أن الحزب في ظل الضغوط عليه يحتاج إلى غطاء وطني وطائفي، يوفره له التيار الوطني الحرّ. وكما يوفر التيار المسيحي هذا الغطاء، لا بد لحزب الله أن يوفر للتيار دعماً لأحاديته على الساحة المسيحية، ودعماً لمشاريعه في الكهرباء وغيرها، وفي ما يدعيه التيار محاربة الفساد ضد خصومه.
الخلاصة، أن المعركة نفسها مستمرة من سوريا إلى لبنان، المجتمع الدولي يضغط ليس لتغييرها إنما لتكريسها أكثر. وهذا يتقاطع بين العقوبات والضغط على المصارف، والتي تنعكس على الناس. وهذ كلها ستؤسس لمتغيرات سياسية ومالية تكون متماشية مع الوجهة الجديدة التي تسير نحوها المنطقة.
منير الربيع – المدن