الاستيلاء العوني على الدولة يوقظ “طائفيّة” الأرثوذوكس
في حالات الخواء السياسي، تنحدر جماعات تتمتع ببعد فكري أو ثقافي يتخطى حدود المذاهب الضيقة، إلى منزلقات لا تشبهها. قد تكون هذه حال الأرثوذوكس. فالمطران الياس عودة اتخذ مكانة يتخطى مقام الكهنوت، إلى بعد سياسي وضعه في مصاف المجددين السياسيين.
جماعة مدينية منفتحة
وتاريخياً، من سوريا إلى لبنان وفلسطين والأردن، تجاوزت شخصيات أرثوذوكسية بارزة حدود الطوائف. كانوا من أبرز مؤسسي القوميتين العربية والسورية كما التيارات اليسارية. وفي المقابل هناك شخصيات أرثوذوكسية نظّرت للقومية اللبنانية، أو للفلسفة اللبنانيوية ذات البعدً الماروني، كالراحل شارل مالك، الذي تخطى حدود الطائفة، إلى الرحابة المسيحية الأوسع.
وفي السوسيولوجيا اللبنانية، كان الروم الأرثوذوكس والسنّة أبناء عائلات مدينية، أعياناً وتجاراً. بينما الدروز والشيعة والموارنة، أبناء أرياف وجبال. وكان الأرثوذوكس في عداد الطوائف المنفتحة، المتفلتة من تعصب الطوائف.
تنزلق إلى انغلاق!
اليوم ثمة من يدفع الأرثوذوكس إلى الانغلاق المتجدد والتقوقع، للعودة إلى العصبية الطائفية. وهذا ما أُريد له أن يتجلى في اجتماع رموز الطائفة الأرثوذوكسية مساء الإثنين 4 أيار الحالي، في مطرانية بيروت للروم الملكيين الأرثوذوكس، للدفاع عن مواقعهم وحصتهم في الدولة، ولمواجهة ما يعتبره رموز الطائفة اعتداءً على مناصبهم ومواقعهم.
ويا ما قدمت الطائفة الأرثوذوكسية نفسها طائفة العلمانيين في لبنان. فمعظم رؤساء الأحزاب العلمانية منها. وأبناؤها تجار المدن، المتجاوزين للطوائف والطائفية، والممثلين للانفتاح. ومن بين أبناء الطائفة شخصيات لها رمزيتها على الساحة العربية والتقدمية واليسارية: من ميشال عفلق وأنطون سعادة، إلى جورج حبش، وجورج حاوي، وديع حداد، وسواهم.
إهانة الطائفة
المشكلة مطروحة منذ مدة، على اختلاف توجهاتهم السياسية، يرى الأرثوذوكس أن هناك هجمة مارونية على مواقعهم، منذ أصبح المعيار هو الدفاع عن حقوق المذاهب، بدلاً من الدفاع عن حقوق الطوائف. أي الدفاع عن حقوق الأرثوذوكسيين بدلاً من الدفاع عن حقوق المسيحيين.
رد الفعل هذا نتاج عمل تراكمي. فموقع محافظ بيروت، مثلاً، عند الأرثوذوكس يتوازى بأهميته موقع حاكم مصرف لبنان الماروني. ومشكلتهم تعود إلى ما قبل تشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري السابقة. يومها اقترح الحريري توزير فيوليت خير الله الصفدي، ممثلة للطائفة الأرثوذوكسية في حكومته. وهو اقترح توزيرها إرضاءً لزوجها الوزير محمد الصفدي. اعترض المطران عودة على هذا التوزير. وقال إنه لا يمكن التعاطي بهذا الشكل مع تمثيل الطائفة. وهذا فيه إهانة. والأمر نفسه تكرر مع وزيرة الدفاع زينة عدرا. كأنما من يتزوج من خارج الطائفة الأرثوذوكسية، لا يعود ممثلاً لها، كحال نايلة تويني التي لا تتحدث باسم العائلة في القداس السنوي في ذكرى والدها جبران، بل شقيقتها هي التي تلقي الكلمة.
تسوية الحريري- باسيل
كانت حسابات المصالح أكبر من حسابات الثوابت. واستمرت الممارسات عينها، التي تكرست تقاسماً مصلحياً، سياسياً وطائفياً للدولة منذ التسوية الرئاسية في العام 2016، والاتفاق بين الحريري وباسيل. هذه التسوية دفع اللبنانيون ثمنها غالياً، وأوصلت إلى ما وصلت إليه الأمور من ترهل وانحطاط، وبرزت مجدداً مع التعيينات في التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية، عندما اعترض الأرثوذوكس على استبدال أحد المواقع المحسوبة عليهم لصالح شخصية مارونية.
ووصل الحال إلى محاولة تعيين محافظ بديل عن زياد شبيب، واختيار بديل له، من دون استشارة المطران عودة، وتسمية البديل من دون توافق مع أعيان الطائفة. الأمر الذي دفع أركان الطائفة إلى الاجتماع رفضاً لما تتعرض له من هجمة مارونية على مواقعها، عضوياً ومعنوياً ضد الجهة المقترِحة للتعيين. وهنا ثمة صراع مديد يعود إلى الإرث الأرثوذوكسي في بيروت تحديداً، عندما بدأت العاصمة تشهد تزايد الحضور الماروني فيها بعد ثورة العام 1958.
وها هو البطريرك الماروني بشارة الراعي اليوم، يوضح بعدم المساس بالمواقع الأرثوذوكسية.
المشرقية العونية
في جانب من الصراع، ثمة رد فعل على الحظوة التي تمتع بها ميشال المر في الحقبات السابقة، وخصوصاً حقبة الوصاية السورية. فيما البعض يحيلون ما يجري إلى توجهات الكنيسة الأرثوذوكسية المعارضة لتوجهات العهد.
لكن لقاء أمس الأرثوذوكسي، حضره المؤيديون والمعارضون للعهد العوني، فاجمعوا على كلمة واحدة تحت راية المطران عودة. ولا يمكن إغفال أن التيار العوني يحصل في الانتخابات النيابية على حوالى 60 في المئة من الأصوات الأرثوذوكسية، معتبرين ذلك التيار مشرقياً، ويتلاقى مع تطلعاتهم.
منير الربيع – المدن