موعد لبناني مع الاضطرابات في عهد الرؤساء الأقوياء
ملوك الطوائف لا يبنون دولة، ولا يقيمون إلا سلطة أضعف من كل واحد منهم. والناس تدفع الثمن، وهي تصفق لهم بقوة العصبيات. ولا شيء يتغير في اللعبة، وإن تبدل اللاعبون. لبنان الذي كان عليه منذ الاستقلال عام 1943 وفق المادة 95 من الدستور، ثم بحسب اتفاق الطائف 1998، تجاوز الطائفية على مراحل لإلغاء الطائفية السياسية، سار في الطريق المعاكس. وهو اليوم في أعلى مراحل الطائفية: طغيان المذهبية وتكريس معادلة السلطة للقوي في طائفته.
ومن زمان كان لبنان على موعد مع اضطرابات أو ثورات أو حروب في عهود الرؤساء الأقوياء. والأسباب كانت دائماً مزيجاً من صدام الإرادات والأدوار والحسابات في اللعبة الداخلية ومن التحولات وتبدل موازين القوى والمصالح في لعبة الصراع الجيوسياسي إقليمياً ودولياً.
الرئيس الاستقلالي الأول بشارة الخوري، الذي تمتع بقوة الاستقلال وما فيها من رمزية، تجمعت حوله عاصفتان: واحدة داخلية هي معارضة ما سُمي حكم “المزرعة” وتسلط شقيقه الملقب بـ”السلطان سليم” وتزوير الانتخابات للتجديد لنفسه، وثانية خارجية هي تبدل اتجاه الرياح العربية والدولية التي جاءت به. وحين واجه الخوري “ثورة بيضاء”، اختار الاستقالة رفضاً لسفك أي نقطة دم.
الرئيس كميل شمعون، الذي جاءت به “الثورة البيضاء”، اصطدم بعد مدة بعددٍ من الزعماء، ثم واجه “ثورة حمراء” في نهاية عهده عام 1958. كانت الشكوى المحلية من تهميش زعامات واحتمالات التجديد له، مصحوبة بارتفاع المد الناصري في المنطقة، لا سيما في سوريا التي صارت في دولة الوحدة، وصدامه مع سياسات الغرب الأميركي والأوروبي التي ذهب لبنان بعيداً في الانحياز إليها.
الرئيس اللواء قائد الجيش فؤاد شهاب الذي جاء بتفاهم أميركي- مصري، وبدأ مسار الانتقال من “استقلال الدولة” إلى بناء “دولة الاستقلال” ومؤسساتها، تعرض لانقلاب عسكري نادر قام به الحزب السوري القومي وعددٌ من الضباط، لكن الانقلاب فشل، وأكمل شهاب بناء المؤسسات.
الرئيس سليمان فرنجية بدأت في أواخر عهده حرب لبنان التي استمرت خمسة عشر عاماً حتى لم تعد مفيدة لمصالح القوى الإقليمية والدولية، فتوقفت بموجب اتفاق الطائف.
واليوم يواجه “العهد القوي” برئاسة العماد ميشال عون، تراكم أزمات نقدية ومالية واقتصادية واجتماعية وسياسية قديمة ومتجددة وجديدة، ولا ضوء في نهاية النفق. وما يلوح هو إما فجر كاذب أو مشروعات أخطر من الأزمات. وبين ما اعترض عليه في الطائف العماد عون عندما كان قائداً للجيش ورئيساً لحكومة عسكرية هو تحويل رئيس الجمهورية من حاكم إلى حكم عبر إناطة السلطة بمجلس الوزراء بعدما كانت مناطة برئيس الجمهورية. وهو يريد أن يمارس اليوم في الرئاسة دور الحاكم لا دور الحكم. وهذا ما جعله على خلاف مع عدد من القيادات التي تطالبه بأن يكون الجامع، لا الذي يمارس في السلطة السياسة التي مارسها للوصول إلى السلطة، وهي الخلاف مع قوى كثيرة. لكن الرئيس الذي كان كمعارض ثم كمشارك في البرلمان والحكومة الأقوى في طائفته، جاء إلى القصر الجمهوري بقوة حليفه القوي “حزب الله”، إلى جانب قوته التي لم تكن كافية وحدها لإنجاز المهمة. إذ فرض “حزب الله” شغوراً رئاسياً على مدى عامين ونصف العام حتى سلمت الأكثرية بمرشحه. ومن الصعب على “الرئيس القوي” ممارسة دور الحاكم من دون قوة “حزب الله”، وفي الموضوعات التي في مصلحة الطرفين. أما عندما تكون المصالح مختلفة، فإن دور الحاكم يبقى نظرياً من دون القدرة على العودة إلى دور الحكم.
وكما في كل عهد قوي، قاد تراكم الأزمات والخلافات والعجز عن تقديم الحلول إلى اعتراض أقوى. ففي 17 أكتوبر (تشرين الأول) بدأت الثورة الشعبية السلمية التي احتلت الشوارع والساحات على مدى أشهر. ثورة قام بها بشكل أساس جيل جديد من شبان وشابات عابر للطوائف والمذاهب والمناطق والزعامات. وكل المحاولات لإنهاء أو احتواء الثورة فشلت حتى جاء كورونا فأخرجها من الشارع. غير أنها عائدة بقوة الشعب الذي تضربه الأزمات، ولا قوة إلا بقوة الدستور والقوانين، ولا قوة فوق قوة الشعب ولو امتلكت كل أنواع الأسلحة. ولا شيء يكمل القوة إلا الحكمة، سواء في دور الحاكم أو في دور الحكم.
المصدر : رفيق خوري – اندبندنت عربية