جمهورية السطو ..
يجمع لبنان أمجاد التناقضات. تحلّ فيه الحالة ونقيضتها. وهذا ما يمارسه المصرف المركزي في هندساته المالية، خدمةً للسياسيين: بتشريع سياسي – قانوني يقوم بعملية سطو على “الآلية البديهية للاقتصاد”، برفعه الفوائد وتجميده الأموال، ثم يوقف الاستثمار، وصولاً إلى هندسات مالية تدرّ أرباحاً من أموال المودعين.
ومع الحكومة الحالية والسابقة، تتصدّر الروبنهودية مخيلة أصحاب القرار: من وعد بتوفير 900 ألف فرصة عمل ينام اليوم ملء جفونه عن شواردها، إلى بلاغة فارغة تتخطى النرجسية، فيتحدث رئيس الحكومة الحالي عن إنجاز 57 في المئة من الإصلاحات، وأنه صاحب القوة الخارقة، حامل كرة النار، والمثال الذي تحتذيه دول العالم أجمع في مواجهة جائحة كورونا.
وفي لبنان مرشد يستهويه الذهاب نحو الشرق، والاقتداء بالصين، بماو تسي تونغ ربما، واشتراكية الجمهورية الشعبية التي لم تعد إلا إمبريالية أوتوقراطية غير ليبرالية. أو التمثّل بروسيا التي قال لينين عن اتحادها السوفييتي ذات يوم، إنها دولة فاسدة ومفسدة، يجب تغييرها، لكن ستالين أوصل فسادها إلى ذروته القصوى.
بلادة حكومية
لا تعرف الحكومة من أين تبدأ. تسلك الطريق الأسهل: الاقتطاع من ودائع الناس بنسبة تصل إلى 50 في المئة، وفق ما هو مقترح. وذلك بدل التفكير بقطاعاتها الأساسية المنتجة وغير المنتجة: من المطارات والمرفأ والمرافق، إلى شركة التبغ والتهريب على المعابر، ومغاور الكهرباء والفيول والمقاولات. وكأن الفلسفة التي تستند إليها، ترتد على أصحابها الذين يحمّلون مسؤولية الانهيار لسنوات ثلاثين سلفت. وهذا لا يؤدّي إلا إلى انتاج فلسفة حكومية جديدة بليدة: على الناس التعود على الفقر.
أما السردية الاشتراكية التي توقظ الحنين في نفوس الاشتراكيين، وتجد مبرراً للاقتطاع والإفقار، فتعكس اعوجاج مفهوم اليسار أو مفهوم الاشتراكية القائمة على مبدأ العدالة الاجتماعية. وهي عدالة يأملها الناس لتحسين أوضاعهم الاجتماعية والمعيشية، ولا تعني التساوي في الفقر والإفقار.
تقول الحكومة للبنانيين: “لن نحسّن وضع الفقير، بل سنفقر الغني”. هذه الفلسفة تناقض تماماً الفلسفة البشرية، التي تطمح دائماً للأفضل، والكسب، وتحسين الأوضاع. ما تطرحه الحكومة اليوم معاكس تماماً لطباع البشر وسنتهم الطبيعية.
سياسة الإفقار التي تريد السلطة تكريسها في لبنان وتعزيزها بتوزيع إعاشة العائلات الفقيرة، تؤسس إلى ما هو أصعب وأسوأ في المقبل من الأيام. ومع افتقادها الحدّ الأدنى من سياسات وتشريعات تحمي المواطنين وودائعهم، تضع الحكومة اللبنانيين أمام واقع بالغ السوء والتردي. واقع قد تكون نتائجه أسوأ بكثير من نتائج الحربين العالميتين على مواطني الدول المتقاتلة.
خرجت ألمانيا واليابان مدمرتين الحرب العالمية الثانية. لكن التشريعات القاسية جاءت في سياق خطة اقتصادية – اجتماعية عامة متكاملة، شجعت الناس على الانخراط في ميادين العمل 16 ساعة في اليوم، بهدف إعادة البناء. في لبنان كل الطروحات القاسية لا هدف منها سوى ما أصبح يقيناً لدى اللبنانيين: اقتطاع، بل سلبهم نصف ثرواتهم من دون أي ضمانة أو ثقة باستثمارها واستعداتها في ما بعد.
الطاقة نموذجاً
يرفض وزير المال السير بالهيركات لأن ذلك يؤدي إلى انهيار المنظومة اللبنانية بكاملها، ولن يدخل بعدها دولار واحد إلى لبنان، وينهار النموذج الاقتصادي والمصرفي اللبناني.
من يواجهون وزير المال لديهم مشاريع أخرى لاستنساخ قطاع الكهرباء في المصارف والنفط، بحيث يفقد اللبنانيون أدنى مقومات الثقة بدولتهم، وبهذه الحكومة التي لم تبرع أصلاً بغير فنّ تلاوة البيانات والصور. وهي أطلقت النار على قدميها في موضوع التشكيلات القضائية والتعيينات المالية، وستطلق النار على رأسها في السياسات المالية والاقتصادية، وصولاً إلى وضع مماثل لوضع الصومال، أو للمشاريع الصينية في أفريقيا: تقدم الصين عشرات المشاريع لإحدى الدول هناك، فتفشل مؤسساتها في إدارتها، لتأتي الشركات الصينية مجدداً وتشتري المشاريع الخاسرة فتتملك البلد بأسره. وهذا ما قد يحصل في لبنان.
منير الربيع – المدن