لبنان.. النفط مقابل الغذاء!
المصدر: المدن
يعرِّف القانون “الجنون” بأنه اضطراب يصيب العقل، فيجعل الشخص فاقد التمييز. أما “العته”، فهو خلل يعتري العقل، فيجعل الشخص قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير، من دون أن يصل إلى مرتبة الجنون.
والجنون والعته حالتان نفسيتان تعرضان صاحبهما لفقدان الأهلية المدنية، وتمنعان عنه تبوء المناصب الرسمية أو القيام بأي عمل قانوني.
هاتان الصفتان تصلحان لوصف الطبقة السياسية اللبنانية برمتها، ولا سيما في الآونة الأخيرة، على نحو تستمر فيه الطغمة المالية والسياسية – وبعض الناشطين في صفوف الثورة- بالتركيز على الشق الاقتصادي من الأزمة التي يمر بها لبنان، متوهمين أن الأزمة الحالية يمكن تجاوزها بإصلاحات اقتصادية، تبدأ بإضعاف سيطرة النظام المصرفي وأسياده على الاقتصاد اللبناني، متناسين تماماً أن الأزمة الحالية تبدأ وتنتهي مع غياب مفهوم الدولة والمسؤولية لدى طبقة سياسية متجذرة، فشلت في بناء دولة حديثة، وفشلت حتى في إدارة نظام زبائني يعود إلى القرن التاسع عشر.
الجنون والعته هما حالة سائدة كذلك لدى قسم كبير من الشعب اللبناني، و تحديداً من لا يزال يراهن على أن حكومة حسان دياب هي حكومة “الاختصاصيين”، القادرة على تحرير أموالهم المحتجزة في المصارف، متناسين أن تلك الأموال قد اختفت نتيجة الهندسات والخزعبلات المالية للحكومات المتعاقبة. وكلمة “الهندسات” هنا هي فقط مفردة رديفة تستعمل لاجتناب كلمة السرقة، والنهب الموصوف. والجنون الأعظم كذلك يتمثل باستمرار الشعب اللبناني بالاستماع إلى قادته، وهم يعدونه بحلّ وضعه المزري عبر الثروة النفطية في بحرنا، أو من خلال زرع نبتة القنب الهندي أو حشيشة الكيف – للاستعمال الطبي طبعاً- و حتى زراعة ثمرة الأفوكادو والخطط الماكنزية ( نسبة لشركة ماكنزي) الأخرى. طبعاً، من دون أن ننسى الإيمان العميق “الهرطوقي” لدى معظم اللبنانيين بأن المجتمع الدولي وأخواننا في الخليج لن ينسونا، و لن ينسوا الخبز والملح أو الكبة النية والعرق الذي قدمه اللبنانيون لهم خلال السنوات والعقود المنصرمة.
الجنون والعته يتمثل في كل مرة يخرج علينا أحد أفراد الطبقة الحاكمة – على غرار ما حصل الأسبوع الماضي لدى الإعلان عن بداية التنقيب عن النفط في أحد الحقول النفطية المكتشفة – ليذكرنا بأن الخلاص في آخر النفق، وبأن الفقر والخراب اللذين نمر بهما كشعب لبناني ليسا نتيجة طمع وفساد كافة أفراد الطبقة السياسية، أو بسبب سيطرة إيران وحزبها على الدولة، بل مجرد غيرة وحسد ونتيجة مؤامرة كونية مستمرة منذ الأزل. خطاب الرئيس ميشال عون وتعقيب صهره، ملك “الهيلا هو”، يضعان الشعب اللبناني أمام خيار واضح وهو “النفط مقابل الغذاء”، بل إن الخلاص الوحيد للشعب اللبناني هو قبوله الطغاة الحاكمين بكل أشكالهم أو مواجهة الجوع والفقر.
في العراق، ساهم مبدأ النفط مقابل الغذاء في الإبقاء على الطاغية صدام حسين لأكثر من عقد إضافي، حارماً الشعب العراقي من فرصة النهوض ببلد قوي. وهكذا سيكون حال الشعب اللبناني، الذي ورغم ثورة 17 تشرين الأول 2019، لا يزال يجاري السلطة وبعض ثوارها بعتههم و جنونهم.
من أجل أن يصبح لبنان “دولة” نفطية عليه أولاً أن يصبح دولة، ومن أجل أن تستطيع الثورة فرض إصلاحات بنيوية للنظام الأوليغارشي السائد، عليها المطالبة بعودة الدولة بمفهومها السيادي والسياسي أولاً، ثم الدخول في النظريات الاقتصادية العامة والخطط الإنمائية المتعددة.
في الأمس، خرج علينا البروفيسور حسان دياب، رئيس الحكومة اللبنانية، ليعلن لنا أن الدولة اللبنانية مترهلة وضعيفة وغير قادرة على حماية أبنائها، وأن هناك حاجة ضرورية لإعادة بناء الدولة. تصريح دياب لم يفاجىء الكثيرين، وأنا من ضمنهم. فلو كانت الدولة قوية وغير مترهلة وسيدة، لكانت قامت فوراً بوقف الرحلات من إيران إلى لبنان بدلاً من تحويل لبنان إلى منفى صحي للجمهورية الإسلامية الإيرانية لمرضى الكورونا. ولو كانت الدولة قوية وقادرة لكانت طلبت من حزب الله عدم نصب تمثال قاسم سليماني على الحدود مع فلسطين المحتلة، وطالبت حسن نصر الله عدم رمي خيرة الشباب اللبناني في ساحات الوغى في الشمال السوري، حيث لا مقامات شيعية ولا حدود مع لبنان.
إن الهلع الذي يرافق فيروس كورونا، والطريقة التي تتعامل بها السلطة، غير مبرر علمياً. ومن الأجدر أن يصب الشعب اللبناني هلعه باتجاه فقدان الدولة، الذي أوصله إلى قعر الهاوية، وجعله يعتقد أن نفطه و حشيشته قادران على إعادته إلى الحياة.
فلو كانت هناك دولة قادرة وقوية لما كان جبران باسيل الرئيس الظل، ولما كان البروفيسور دياب يرأس حكومة تمثال سليماني. بل كان ليبتعد على الأرجح عن الأصنام السياسية ويصغي إلى العديد من الثوار، يقدمون النصح والمشورة من أجل بناء دولة واقتصاد أكثر عدالة وشفافية. وطن خالٍ من فيروسات تأتينا من مشاريع إقليمية أكثر خبثاً وشراسة من كورونا وأخواتها.