العالم ينتقل من صراع الدول إلى حروب الميليشيات
ينشغل المجتمع الدولي بقضايا الإرهاب والأمن والهجرة بينما المئات من العائلات كانت تهرب من عنف العصابات في أميركا الوسطى، وللاحتماء من شبكات تجارة المخدرات كانت تطلب اللجوء إلى الولايات المتحدة أو إلى المكسيك.
وفي الوقت الذي تنفس فيه سكان الموصل بالعراق الصعداء بعد انتهاء حكم تنظيم داعش للمدينة قبل نحو عام إثر حرب طاحنة مع القوات الحكومية، يشكو السكان من تصاعد وتيرة عمليات السطو المسلح وابتزاز لأصحاب متاجر، حيث يقتحم المسلحون المنازل منتصف الليل، ويجمعون أفراد العائلة في غرفة واحدة بدعوى التفتيش، وبعد حوالي عشرين دقيقة يغادرون المنزل بعد سرقة ما يجدونه من أموال ومصوغات ذهبية وغيرها. كما تشهد محافظات جنوب العراق بصورة متكررة اشتباكات مسلحة بين العشائر نتيجة لخلافات مجتمعية.
وفي إيطاليا وصف البابا فرنسيس ما تفعله عصابات المافيا بأنه مخالف للدين وذلك خلال زيارة أداها إلى صقلية لتكريم كاهن قتلته هذه العصابات قبل 25 عاما خلال مساعيه لإنقاذ شبان حي فقير من الوقوع في براثنها. وسبق أن هاجم البابا فرنسيس أعضاء في المافيا بإيطاليا، حيث يذهب كثيرون منهم إلى الكنيسة ويمارسون طقوس المسيحية علنا، بأنه لا يمكن لهم أن يطلقوا على أنفسهم مسيحيين لأنهم “يحملون الموت في أرواحهم”.
وكانت الكلمات التي ارتجلها البابا فرنسيس أمام العشرات من الآلاف في عظته الأسبوعية العامة في ساحة القديس بطرس في مارس الماضي أقوى هجوم على الجريمة المنظمة منذ ما يقرب من أربع سنوات.
أما المكسيك والفلبين فتخوضان بدورهما حربا ضد تهريب المخدرات والجريمة المنظمة. وسجلت السلطات المكسيكية 25 ألفا و324 عملية قتل عام 2017. في حين قتلت الشرطة في الفلبين أكثر من 4500 شخص يشتبه في أنهم تجار ومتعاطون للمخدرات منذ تولي رودريجو دوتيرتي السلطة، فيما قتل آلاف آخرين على يد مسلحين مجهولين تقول السلطات إنهم حراس متطوعون أو أفراد من عصابات متنافسة.
أمام هذا العنف الذي يغرق فيه العالم بسبب الجرائم المنظمة، توقع الباحث روبرت موغاه في تقرير في مجلة فورين بوليسي الأميركية أن تكون عصابات المخدرات ومجموعات المافيا والجماعات الإرهابية هي المسؤولة عن شن الحروب المستقبلية، محذرا من أن الوقت قد حان لإعادة صياغة خطط جديدة تنقذ العالم من أهوال الحروب القادمة.
وشهدت الحروب طفرة، لا سيما بعدما تضاعف عدد الحروب الأهلية، عما كان عليه الأمر في عام 2001. وتزامنا مع اشتداد أوج النزاعات، يتضاعف عدد الجماعات المسلحة غير الحكومية المشاركة في إراقة دماء المدنيين. ووفقا للجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن ما يقرب من نصف حروب اليوم تضم ما بين ثلاث وتسع مجموعات معارضة. وأكثر من 20 بالمئة فقط من الحروب تضم أكثر من 10 كتل متنافسة.
وفي الحروب عادة، بما في ذلك النزاعات الدائرة حاليا في ليبيا وسوريا والعراق، تتنافس الميليشيات المسلحة من أجل فرض السيطرة. غير أن غالبية هذه الفصائل المتحاربة هي نفسها منقسمة داخليا إلى حد كبير، ومن المرجح أيضا أن يكون عدد كبير من المقاتلين اليوم منتسبين إلى عصابات المخدرات ومجموعات المافيا والعصابات الإجرامية والميليشيات والمنظمات الإرهابية، وليس إلى الجيوش أو فصائل المتمردين المنظمة.
وقد كشفت صحيفة واشنطن تايمز الأميركية في يونيو 2016 عن قيام حزب الله اللبناني بنقل كميات كبيرة من الكوكايين من أميركا الجنوبية إلى أوروبا، بهدف تمويل عملياته ومخططاته. وهو ما يكشف عن التعاون المتزايد بين جماعات الجريمة المنظمة في أميركا اللاتينية، والجماعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط.
ونقلت الصحيفة عن مدير العمليات السابق بوكالة مكافحة المخدرات الأميركية، مايكل براون، قوله إن مخططات عمليات نقل الأموال التي يقوم بها حزب الله باتت أكثر تطورا من أي وقت مضى. وقد أعلن القضاء الأميركي، مؤخرا، عن إنشاء وحدة خاصة للتحقيق بشأن تورط حزب الله اللبناني ذراع إيران في لبنان والذي ينفذ أجنداتها التخريبية ويشارك في الحرب السورية، في تجارة المخدرات لدعم الإرهاب.
هذا الخليط من الإجرام والتطرف والتمرد يزرع الفوضى في العالم بأسره: في أجزاء من وسط وجنوب أميركا، وجنوب الصحراء الكبرى، وشمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وليس من الغريب أن يتحدى هذا العنف الجهود الأممية لحفظ الأمن والاستقرار، مثل المفاوضات الرسمية لوقف إطلاق النار، واتفاقات السلام، وعمليات حفظ السلام، حتى أن الدبلوماسيين والمخططين العسكريين وعمال الإغاثة وقفوا عاجزين عن التصرف أمام هذا العنف. وعلى الرغم من أن هذه المشاكل تولد حالة من انعدام الأمن بسبب هذه النوعية من الحروب الجديدة، إلا أنه لا يوجد هناك إطار قانوني يسهّل التعامل والتصدي لهذا النوع من الحروب.
مدن المخدرات
كون هذه العصابات الإجرامية تقع عند مفترق الطرق الذي يجمع بين الجريمة المنظمة والحرب المباشرة، فإنها تثير تساؤلات قانونية وتشغيلية وأخلاقية صعبة حول كيفية التدخل لمنع أنشطتها الخطرة، ومن ينبغي عليه أن يتدخل؟ وما هي الضمانات اللازمة لحماية حياة المدنيين؟
وتقف المكسيك في أوائل صفوف حروب الجريمة الحالية. وتقدر السلطات العامة أن هناك حوالي 40 بالمئة من البلاد معرضة لانعدام الأمن بشكل مزمن في ظل ارتفاع معدلات جرائم القتل وحالات الاختفاء وتهجير السكان. وتشعر بعض ولايات المكسيك مثل غيريرو وميتشواكان وتاماوليباس وفيراكروز بالعجز بسبب جرائم العنف المنظمة، بدليل الاكتشافات الروتينية للمقابر الجماعية.
ومنذ أن عزز الرئيس السابق فيليبي كالديرون حرب البلاد على المخدرات في عام 2006، أدت المنافسة العنيفة بين الجيش المكسيكي والشرطة وعصابات المخدرات والفصائل الإجرامية إلى مقتل ما لا يقل عن 200 ألف شخص. وحدثت أكثر من 29 ألف جريمة قتل في عام 2017. وفي ولاية غيريرو وحدها قُتل أكثر من 2500 شخص في العام الماضي، وكان العديد منهم ضحايا اشتباكات بين 20 من ميليشيات للدفاع عن النفس، و18 جماعة إجرامية.
وبسبب العنف المتوطن وتراجع الحكومة البطيء عن المناطق الموبوءة بالجريمة، فإن بعض المدن تديرها الآن حكومات موازية مكونة من هياكل سياسية وإدارية تتعامل بقانون الجريمة، في ما يطلق عليه “مدن المخدرات”، مما يزيد ويدعم من بقاء واستدامة اقتصاد المخدرات.
ففي البرازيل، تخضع أجزاء كبيرة من بعض أكبر مدنها لسيطرة الفصائل والميليشيات المتنافسة في الاتجار بالمخدرات. حيث تسيطر عصابات مثل كوماندو فيرميلهو (القيادة الحمراء)، وأميغوس دوس أميغوس (أصدقاء الأصدقاء)، وتيرسييرو كوماندو بورو (القيادة الثالثة) على حوالي 1000 من مجتمعات محدودي الدخل، والذين يمثلون حوالي 20 بالمئة من سكان مدينة ريو دي جانيرو على سبيل المثال.
وفي الوقت نفسه، يُزعم أن مدينة ساو باولو تقع أيضا تحت سلطة عصابة “بريميرو كوماندو دا كابيتال” (القيادة الأولى لرأس المال). وفي المدن الصغيرة عبر شمال وشمال شرق البرازيل، بدأت العصابات والميليشيات في التصارع من أجل فرض السيادة في الأحياء الفقيرة.
وبالفعل، تقوم هذه الميليشيات بإدارة سجون الدولة بشكل فعال. وقد بدأ بعض أفراد هذه العصابات بالدخول في المجال السياسي والترشح للمناصب، في حين يسعى آخرون للتأثير على الانتخابات من خلال شراء وبيع الأصوات.
وقد أدى العنف المنظم والعنف الشخصي إلى مقتل ما يقرب من 64 ألف برازيلي في عام 2017، أكثرهم من الشباب السود الأشد فقرا. كما أدت الفوضى المتفشية أيضا إلى التدخل العسكري بشكل متكرر.
ومما يزيد الأمر سوءا، توسيع الجماعات المسلحة في أميركا اللاتينية لنشاطها ليعبر الحدود. فعلى سبيل المثال، تعمل بعض عصابات البرازيل على توسيع نطاق وصولها إلى خارج حدودها، حيث تدير عصابة “بريميرو كوماندو دا كابيتال”، وهي أكثر عصابات المخدرات شهرة في أميركا اللاتينية، عملياتها في سبع دول على الأقل في جميع أنحاء أميركا الجنوبية.
كما أن العصابات التي تم تمريرها إلى الولايات المتحدة، مثل “إم. إس. 13” و”باريو 18”، جعلت من جمهورية السلفادور واحدة من أكثر دول العالم عنفا والأعلى في معدل جرائم القتل.
وتحدثت وزارة الخزانة الأميركية وإدارة مكافحة المخدرات في يناير الماضي عن عملية كبرى تشمل مهربي مخدرات في كولومبيا وبنما لشحن أطنان من الكوكايين إلى الولايات المتحدة وأوروبا وأماكن أخرى.وكذلك انتشرت عصابات الجريمة والجماعات المتمردة والمنظمات شبه العسكرية التي تنتمي إلى مدينة ميديلين الكولومبية من المكسيك إلى الأرجنتين. وبالمثل، خارج الأميركيتين، وفي المدن الكبرى مثل كيب تاون ولاجوس وكراتشي، تقوم العصابات بتجنيد الأطفال للمشاركة في معاركهم وفي تجارتهم المزدهرة في المخدرات والمعادن وتهريب البشر.
وبحسب المصدر نفسه، قامت الشبكة بتبييض مليارات الدولارات من أموالها الخاصة وأموال مهربين آخرين عبر شركات في بنما ومصارف مختلفة في لبنان وأماكن أخرى، إضافة إلى تصدير عشرات الآلاف من السيارات المستعملة من الولايات المتحدة لبيعها في غرب أفريقيا.
وبحسب المسؤول السابق في إدارة مكافحة المخدرات ديريك مولتز فإن حزب الله استخدم آنذاك تلك المبالغ لشراء أسلحة لتمويل عملياته في سوريا، فيما وصلت بعض الأموال أيضا إلى اليمن لدعم الميليشيات الحوثية الموالية لإيران.
وتعود حروب الجريمة اليوم إلى حقبة ما قبل “صلح وستفاليا” من الصراع الدائم الذي ينطوي على ممالك إقطاعية وقطاع طرق مغرورين. وهذا يفسر جزئيا لماذا لا يمكن تطبيق القواعد التي وُضعت لتنظيم الصراعات المسلحة بين الدول الحديثة.
فساد سياسي
من وجهة النظر التقليدية، فإن الجماعات الإجرامية (مثل المافيات والعصابات) ليست من الفاعلين السياسيين القادرين رسميا على شن الحرب. وهذا يعني أنه لا يمكن معاملتها كأعداء، ولا يمكن محاكمتها بتهمة ارتكاب جرائم حرب. ومع ذلك، فإن مثل هذه الجماعات تقوم بتحقيق أهداف سياسية ملموسة بشكل متزايد، من انتخاب السياسيين الفاسدين إلى إنشاء أحزاب مستقلة.
والأكثر من ذلك أنهم يحكمون بشكل روتيني، ويسيطرون على مساحات الأراضي، ويقدمون المساعدات والسلع الاجتماعية، ويفرضون الضرائب ويبتزون الأموال من السكان المحليين الخاضعين لسيطرتهم.
وغالبا ما تتواطأ هذه الجماعات مع الجنود الفاسدين والشرطة وحراس السجون وموظفي الجمارك لتوسيع نطاق حكمهم. وقد لا تهدف هذه العصابات بالضرورة إلى الإطاحة بحكومات الدول، ولكن ما تمارسه من أنشطة يؤول في النهاية إلى تهديد أمن المواطن البسيط. وعلى الرغم من أن التكلفة البشرية لنشاط هذه العصابات أو المافيا يمكن احتواؤها، إلا أن الموت والدمار الناجمين عن حروب الجريمة اليوم لا يمكن التقليل منهما.
وقد فر الملايين من اللاجئين والمشردين جراء هذه الجرائم. لكن العديد من أولئك الذين تم تهجيرهم عالقون في ظرف معيشي غامض بعد أن تم رفض منح معظمهم حق اللجوء، والذي، كما هو مقنن في القانون الدولي للاجئين، والقانون الإنساني الدولي، ومن قبل المحكمة الجنائية الدولية، يُمنح عادة للأشخاص الفارين من الحروب الدولية والمدنية.
وكانت الحكومات عادة مترددة في الاعتراف بهذا النوع من النازحين كلاجئي حروب، بما أن ذلك سيضفي شرعية على حروب الجريمة. لكن في ظل وجود كل هؤلاء المدنيين الذين قُتلوا وعُذّبوا، وفي ظل الهجوم المتكرر على مسؤولي الحكومات والصحافيين، وعلى هؤلاء الأسر التي أُجبرت على الفرار من الإبادة الجماعية والاختطاف القسري، فإن العنف الناتج عن حروب الجريمة لا يمكن تمييزه عن العنف الذي يولد عن الحرب التقليدية.
وتبعا لذلك لن تتلاشى الحروب الإجرامية فجأة حسب ما خلص إليه روبرت موغاه، ولهذا السبب يجب على الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها والمجتمع الدولي الإنساني توضيح ما إذا كانت الجريمة مشكلة داخلية بحتة حتى يقع التعامل معها من خلال الشرطة والعدالة الجنائية، كما دعا إلى ذلك كارلوس إيفانفوينتس من مكتب الأمم المتحدة للشؤون القانونية، وكذلك بول ريكستون كان وفيل ويليامز من الكلية الحربية للجيش الأميركي ومركز الدراسات الأمنية الدولية بجامعة بيتسبرغ، أو ما إذا كانت مجرد تمرد إجرامي كما وصفها كريستيان فيانا دي أزيفيدو، من الشرطة الفيدرالية للبرازيل. وإذا كان هناك إجماع على الرأي الأخير، سيتعين على التدخلات المسلحة التقيد بمجموعة من وسائل الحماية الواردة في القانون الدولي الإنساني.
وتساعد منظومة الأمم المتحدة، في مكافحتها للجريمة المنظمة عبر إبرام العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بمراقبة المخدرات، وبشأن الاتجار بالبشر، وتهريب المهاجرين والاتجار بالأسلحة النارية، فضلا عن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.