زمن الانحطاط
حازم الأمين – الحرة
في أسوأ أيامه، لم يبلغ لبنان هذا المستوى من الانحطاط الذي يتخبط فيه اليوم. أينما وليت وجهك، سيلوح مشهد قبيح. أذنك لن تلتقط سوى أصواتا شديدة الإيذاء من نوع “التفوق الجيني”، وأنفك أيضا، ذاك أن رائحة تعفن النفايات تفشت مع حلول الصيف، إلى أن جيء بخبير دولي يحدد مكمنها، أما عيناك، فحدث ولا حرج، فيكفي أن يلوح التلفزيون أمامهما، ليظهر فيه فريق تلفزيوني يطارد لاجئين ويتهمهم بالسطو على أرزاق المواطنين، ولتكتشف هول الضيق والردة اللتين نعيشهما.
لا صوت يعلو فوق صوت جبران باسيل، ولا قوة تفوق قوته. هو اليوم الحقيقة اللبنانية الدامغة. وليست كراهية اللاجئين وحدها ما يولده تصدر مشهد هذا الرجل أيامنا، وليست مذهبيته وصوته، إنما قيمه، ذاك أنه تمكن من أن يحجز مكانا أساسيا في وعينا بأنفسنا، وبمن نحن.القضاء ابتذل العدالة مثلما ابتذل الوزير السياسة
لقد بلغ الانحطاط مبلغا مذهلا. لا أحد يخجل بما يرتكب، ولا أحد يبذل جهدا لستر انتهاكاته. كل هذا يجري في رحاب “دولة لبنان القوي”. وإذا كانت تغريدة باسيل عن “الانسجام الجيني اللبناني” هي ذروة الانحطاط، فإن ما يوازيها من علامات الانحطاط لا يقل إدهاشا. فما جرى في ملف تبرئة المقدم سوزان الحاج من فضيحة فبركة تهمة العمالة لزياد عيتاني يفوق “الانسجام الجيني” في ردته، ذلك أن الأخيرة فكرة وقناعة ورذيلة، في حين أن ما أصاب عيتاني كان فعلا وعملا وممارسة أفضت إلى حجز حرية شخص إلى انتهاك كرامته.
والفضيحة إذ اشتغلت أمام كل اللبنانيين، أتبعت بفضيحة أخرى تمثلت بتبرئة الفاعل، والتبرئة أقدم عليها القضاء، والأخير لم يكترث لارتدادات فعلته عليه. وبهذا المعنى فإن كرامة كل اللبنانيين هي من استهدفه حكم البراءة من جريمة معلنة وموثقة، وليست كرامة عيتاني لوحده. فالقاضي قال لنا إن لا عدالة تحميكم من نزق ضابط ومن سقطة سياسي، وإن الأقوياء هم الفاسدون والأشقياء.
القضاء ابتذل العدالة مثلما ابتذل الوزير السياسة. لا شيء غير قابل للاستعمال في جمهورية لبنان القوي. الإعلام، حوله الوزير عينه إلى منصة ميليشيوية فالتة في الطرق بحثا عن عامل سوري لكي تصطاده الكاميرا. كاميرا الوزير التي انتهكت كرامات الناس، بعد انتهاكها المهنة، دخلت المتاجر وراحت تستجوب العمال السوريين وتحثهم على المغادرة إلى بلدهم الذي “صار آمنا”.
كل الأخبار في لبنان تحمل قدرا من هذا النزق وهذا الضيق، ومن اهتزاز جوهري في ميزان الأخلاق. وزير التربية أكرم شهيب قرر أن يمنع بعض المدارس غير الشرعية من أن يشارك تلامذتها في الامتحانات الرسمية. ومعظم هذه المدارس في منطقة الضاحية الجنوبية، فجاءه الجواب من إعلام حزب الله بأن عُرض شريط فيديو لشهيب في العام 1982 أثناء حديث له مع ضباط إسرائيليين. هو وزير في حكومة لحزب الله فيها أكثرية، لكن هذا لا يمنع من التلويح بواقعة عمرها نحو أربعين عاما إذا ما تعرض لـ”جمهور المقاومة”، علما أن صورا موازية وفي نفس المرحلة جمعت رئيس الجمهورية ميشال عون مع ضباط إسرائيليين، إلا أن موعد التلويح بها لم يحن بعد.
مسار انحداري نحو هوة لا قاع لها. في كل يوم نقول إن فضيحة هذا النهار هي الذروة، لكن الطبقة السياسية تجود علينا بما هو أفدح. تفرج إيران عن نزار زكا المعتقل اللبناني في سجونها، والمتهم والمحكوم من قبلها بالعمالة للولايات المتحدة الأميركية. فضيحة الإفراج عن “العميل الأميركي” فاقت فضيحة اعتقاله، ذاك أن فعل الإفراج أوقع خطاب الممانعة بمأزق جديد، فالرجل “عميل”، والمقاومة توسطت للإفراج عنه، وطهران استجابت، والسلطات اللبنانية احتفلت بـ”استعادة” مواطن هو في عرف جمهورها و”شعبها” عميل. كيف يمكن صياغة لغة ومنطق لهذه الواقعة، سوى أننا حيال خطاب مراوغ لا قيم تحكم خطواته.بلغ الانحطاط مبلغا مذهلا. لا أحد يخجل بما يرتكب
وبينما تعصف ببلدنا حكايات زياد عيتاني ونزار زكا وتغريدات وزير الخارجية تشتعل اشتباكات في بعلبك بين الجيش اللبناني وبعض تجار المخدرات، ويتولى حزب الله التوسط للتهدئة وينجح ويعم الوئام من جديد، ويغرد أحد اللبنانيين مضيفا إلى ثلاثية “جيش وشعب ومقاومة”، عبارة جديدة لتصبح رباعية “شعب وجيش ومقاومة وتجار مخدرات”.
إنه “لبنان القوي” المنتصر على العدو والمقاتل إلى جانب النظام في سوريا. لبنان الفساد وانعدام العدالة واهتزاز القيم. لبنان المتفوق جينيا، بعد أن تم تخصيب جيناتنا بروائح نفايات عجزنا عن تدبيرها على رغم أننا انتصرنا على أقوى جيوش العالم.