تحقيق يكشف فساداً يمتد ما بين لبنان والاتحاد الأوروبي في ملف النفايات
يلتهم الفساد المشين في لبنان أموال الاتحاد الأوروبي المصروفة على المشروعات البيئية، والتي يقول عنها العلماء حالياً إنها “كارثية” على الصحة. كما تحول وكالة مكافحة الفساد التابعة للبلاد، الأموال المُخصصة لعقود مصانع إعادة التدوير وصناعة الأسمدة، إلى جهةٍ ما. لكن من هي تحديداً؟
كانت بلدة المنية في لبنان سابقاً تُعتبر جنة على الأرض، وكان الناس من جميع الأنحاء في شمال لبنان، ولمئات السنين، يتوافدون إلى هذا الوادي، الواقع على الساحل اللبناني على بعد كيلومتراتٍ قليلة فقط من شمال مدينة طرابلس اللبنانية، وذلك لأرضه الخصبة ومياهه الطبيعية وجماله. وعاش المسيحيون والمسلمون هناك في وفاق حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاماً.
لكن أصبح لهذه البلدة والمناطق المحيطة بها جانب مظلم الآن. فبالنسبة إلى كثر من سكانها –وغالبيتهم من المسلمين- صارت المنية ضحية كارثة بيئية هي نتيجة ثانوية لفسادٍ جنوني متزايد في البلد، وهلاك بيئي يلوح في الأفق، وعلاقات البلد المتعكرة مع مقدمي المعونات الدوليين.
يتعرض السكان المحليون للتسمم بسبب مياه الآبار الملوثة، وذلك بعد تشييد محطة لإعادة التدوير موّلها الاتحاد الأوروبي، وكان –المشروع- مآله الفشل من البداية، نظراً إلى الفساد المنتشر في الحكومة المركزية والتهاون الصادم من جانب بروكسيل في التحقق من مصارف أموالها الخاصة، كما اتضح.
وفقاً لتحقيق شامل أجريناه، فإن مجموعة كبيرة من الخبراء البيئيين والأكاديميين ونشطاء مكافحة الفساد والمبلغين السريين عن المخالفات؛ يوجهون كلهم أصابع الاتهام إلى محطة لإعادة التدوير وصناعة الأسمدة العضوية يمولها الاتحاد الأوروبي، ويعتقدون أن هذا المشروع يلوّث المياه في المنطقة بأكملها ويهدد حياة مئات الآلاف من السكان. الجدير بالملاحظة هو أن البعض منهم تمادى إلى درجة ربط هذا المشروع بالأعداد المتزايدة في الوفيات بسبب السرطان في شمال لبنان.
كشف تحقيقنا الذي استمر 18 شهراً، أن الاتحاد الأوروبي يضخ بلا اكتراث ملايين الدولارات في المخططات البيئية، من دون أدنى اهتمام بطريقة صرف هذه الأموال، ما يدفع رجال الأعمال الكبار والمسؤولين الحكوميين إلى نهب هذه الأموال السهلة المتاحة أمامهم.
المثير للسخرية هو أنه في دوامة ذلك العالم الغامض هناك من يتهم -أحد كاشفي الفساد- قسم مكافحة الفساد التابع للحكومة بالتواطؤ سابقاً مع أعمال الاحتيال على مدى سنوات عدة، وما يثير قلق الخبراء هنا هو أن برنامج الاتحاد الأوروبي الذي يشمل عشرات المناطق، هو برمته مجرد “كذبة” ويشكل تهديداً خطيراً على الصحة العامة.
كشف تحقيقنا الذي استمر 18 شهراً، أن الاتحاد الأوروبي يضخ بلا اكتراث ملايين الدولارات في المخططات البيئية، من دون أدنى اهتمام بطريقة صرف هذه الأموال، ما يدفع رجال الأعمال الكبار والمسؤولين الحكوميين إلى نهب هذه الأموال السهلة المتاحة أمامهم.
دعائم فيلم
عام 2005، تم افتتاح محطة لإعادة التدوير وصناعة الأسمدة في المنية. وكان المشروع بالكامل من تمويل الاتحاد الأوروبي في مرحلتي البناء والتشغيل. منذ اللحظات الأولى كانت عملية البناء كذبة سافرة وفجة، دبرتها شركة –بعد الفوز بالمناقصة التي أجراها مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية OMSAR في الحكومة اللبنانية (وهي وزارة مختصة بالإصلاح) – كان دورها الوحيد هو إنتاج معدات ضخمة ووهمية لصنع السماد العضوي، بينما كانت تلك الآلات في الحقيقة مجرد أسطوانات فارغة بُنيت لخداع الاتحاد الأوروبي والحصول على نصف مليون دولار ثمناً لها. لم تُنتج تلك الأسطوانات ولو مقدار قبضة من الأسمدة، وبعد سنوات كان دورها هو خداع ما لا يقل عن 3 سفراء للاتحاد الأوروبي في بيروت.
بعد 11 عاماً، وبعد حضور السفير الجديد (والحالي) للاتحاد الأوروبي احتفالاً مع كبار الشخصيات لتدشين جولة جديدة من التمويل، تم التخلص منها.
أُلقيت الآلات المزيفة على أرضٍ مجاورة، وبدت مثل دعائم باقية من أحد أفلام حرب النجوم (ستار وورز). في الواقع، ظلت تلك الآلات قابعة في المصنع أكثر عن عقد من دون تشغيلها، وذلك من دون علم سفير الاتحاد الأوروبي قليل الحظ – وهو دنماركي يستمتع بالحياة المترفة التي تقدمها بيروت.
لكن في الاحتفال الهزلي الذي أُقيم من أجل الصحافة عام 2016، كان هناك سياسي محلي ينظم حملات منذ أربع سنوات لتغيير إجراءات عمليات المناقصة، كي لا يكون المقابل لصفقات الفساد الضخمة هو أموال الاتحاد الأوروبي. عماد مطر شخص متواضع وبسيط وغير مرتاح في لعب دور كاشف الفساد، لكن مزاعمه المثيرة تهدد بإنهاء إجراءات التمويل المتساهلة من جانب الاتحاد الأوروبي في لبنان، من خلال مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية OMSAR، وإجبار الاتحاد الأوروبي على التصرف بمسؤولية أكبر في ما يخص طريقة تمويله لتلك المشروعات البيئية.
قال لي في حوارٍ أجريته معه، “لم تعمل تلك الأسطوانات أبداً. لقد حاولوا كل شيء لجعلها تدور”، وتابع وهو يبتسم ويتوقف قليلاً لإضفاء التأثر، “وهو ما يثير الشك بالطبع”.
ثم قال بهدوء وبصوت منخفض، “أعتقد أن عملية شراء تلك الآلات كان فيها فساد. لقد اتفق الزائرون الذين رأوا الآلات على أنها زائفة وتم الإتيان بها حتى يستفيد المورد وحسب”.
وهكذا، تُركت السلطة المحلية لمطر، وهي تراقب مشروع الاتحاد الأوروبي، مع مصنع صوري بالكامل؛ والذي لم يكن سوى مصنع فرز على أحسن تقدير، وذلك بعد التهام مبلغ ضخم إجماله 2.5 مليون يورو، وهو مساعدات مُقدَمة من الاتحاد الأوروبي. ناشد مطر، الذي شعر بالغضب بعد محاولته الساذجة أن يوضح للاتحاد الأوروبي ومكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية OMSAR، أن الأمر برمته مجرد خدعة، وطلب من الأمم المتحدة ومؤسسة “ميرسي كوربس” الخيرية في المملكة المتحدة، المساعدة في “إتمام” بناء المصنع. والنتيجة حالياً هي مصنع فرز فعال، لكن له جانب رديء يعمل في صناعة السماد العضوي، لا يزال في الهواء الطلق حتى هذه اللحظة، وهو خطر بشع على الصحة البيئية في حد ذاته.
أزمة المكبات
إلا أن الاختلال في المنطقة الخاصة بشبكة مكب النفايات الصغير بأكملها في المنية هو أيضاً في صميم ما يعتقد مطر ومجموعة من الخبراء حالياً بأنه سبب سُمّية الماء في تلك المنطقة وإصابة السكان بالأمراض. فقد اختار القائمون على مناقصة الاتحاد الأوروبي لِمحطة إعادة التدوير وصناعة السماد العضوي مكب نفايات واحد عادي كبير، يبعد بضعة كيلومترات فحسب ويقع في مكان مرتفع، في الوقت الذي حذر فيه تقييم للتأثيرات البيئية من ذلك تحديداً، مفضلاً مدافن القمامة الصحية.
يقول مطر إنه حذر مسؤولة الاتحاد الأوروبي أثناء الاحتفال من أن ذلك كان أمراً غير حكيم، وعرض بناء واحدٍ بنفسه من المال المحلي. يقول، “عندما أتت كريستينا (ممثلة الاتحاد الاوروبي في لبنان) إلى هنا في تموز/ يوليو 2016، أخبرتها أن هذه المنشأة تحتاج إلى مكب نفايات إضافي قريب وأننا سنتحمل تمويله وبناءه”.
كان مطر ومجموعة الخبراء الذين أجريتُ معهم لقاءات، مقتنعين بأن السماد الذي أنتجته المحطة الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي على مدار عقد، كان يتحد مع بكتيريا قاتلة بل وربما معادن خطرة. لا ينتج أي مصنع تابع للاتحاد الأوروبي في لبنان سماداً جيداً يمكن بيعه إلى المزارعين، إلا أن المنية كانت ملوثة بشدة، لدرجة أدت إلى تسميم المياه الجوفية في المنطقة كلها بعد إلقاء السماد في مكب النفايات.
تحذير: إنها سمّية!
من أصل خمسة عينات مستقلة من مياه الآبار والتي أخذها الكاتب شخصياً وسلمها بنفسه لمختبر الجامعة الأميركية في بيروت، كانت العينات ملوثة بصورة مفزعة بمستويات مرتفعة من البكتيريا. ويعتقد مسؤولون محليون في المنية أنها السبب وراء ارتفاع الحالات المرضية في السنوات الأخيرة.
صُدمت الدكتورة كارول سخن -واحدة من أكثر خبراء البيئة وعلم السموم تقديراً في البلاد وأستاذة في الجامعة الأميركية في بيروت- عندما رأت نتائج الاختبارات. وأخبرتني عام 2018، “تحتوي عينات المياه هذه على مستويات مرتفعة للغاية من البكتيريا. أقصد، أن تلك المياه التي يشربها هؤلاء الناس هي بالفعل مياه صرف صحي، وبالتالي فهم يتعرضون لشتى أنواع الأمراض الخطيرة، منها الأمراض السرطانية”.
وقالت بعد اطلاعها على نتائج دراسة أجرتها البلدية بنفسها، “إذا كانت جميع المحطات الاثنتي عشرة (الممولة من الاتحاد الأوروبي) تفشل في إنتاج سماد عضوي (جيد) ومع ذلك تُجلب النفايات الصلبة إلى مواقعها بصفة يومية، فإن هذا يمكن اعتباره كارثة بيئية وأيضاً كارثة على صحة الإنسان على حد سواء”.
“تحتوي عينات المياه هذه على مستويات مرتفعة للغاية من البكتيريا. أقصد، أن تلك المياه التي يشربها هؤلاء الناس هي بالفعل مياه صرف صحي، وبالتالي فهم يتعرضون لشتى أنواع الأمراض الخطيرة، منها الأمراض السرطانية”
وأضافت، “سيكون الـ12 موقعاً بمثابة مدافن قمامة نشطة، لكنها ستفتقر إلى المواصفات الموجودة في مدافن القمامة وسوف تلوث مستودعات المياه الجوفية والتربة والهواء -على سبيل المثال لا الحصر- بكل أنواع المواد السامة. وسيكون لها تبعات صحية أخطر، بخاصة إذا كانت هذه النفايات الصلبة تحتوي على نفايات المستشفيات، وعندها سيكون التأثير في صحة الإنسان هائلاً ولا رجعة فيه”.
تثير تحذيراتها المرعبة من نفايات المستشفيات القلق، بخاصة بالنظر إلى أن إحدى محطات الاتحاد الأوروبي في الجنوب كانت متورطة في فضيحة تتعلق بنفايات المستشفيات.
مع ذلك بالنسبة إلى بلدة المنية، تحذر السخن من أن مستويات التلوث كانت أعلى “مئة مرة” من المستويات الدنيا المقبولة للبكتيريا التي توصي بها منظمات الصحة العالمية، وأعربت عن قلقها من الآثار الوخيمة للاختبارات، “ما يقلقني هو أنه مع هذه المستويات المرتفعة للبكتيريا، قد تحتوي المياه أيضاً على معادن ثقيلة والتي تعد أكثر خطورة من البكتيريا”.
يتفق الخبراء على أن نموذج السماد العضوي يعد مقبولاً عندما يكون 80 في المئة من السماد الذي ينتجه الموقع ذو جودة عالية، وتعتبر نسبة الـ20 في المئة سيئة الجودة مقبولة. لكن وفق بحثنا، لا يقترب أيّ موقع من المواقع الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي من هذه النسبة. في حالة المنية، التي تجمع 60 طناً من القمامة يومياً، تُعالَج نحو 70 في المئة من القمامة التي يتم جلبها إلى المواقع، وتحول إلى سماد ويُعاد الباقي مباشرة إلى مدفن النفايات. ومع ذلك فإن كلا الفئتين ملوثتين ونتج عن ذلك تلوث فعلي للمياه الجوفية على عمق أميال، بسبب عدم الاكتراث بالمساءلة.
لعبة تبادل اللوم
إذاً على من يقع اللوم؟ وفقاً لِمطر، وبالتأكيد خبراء البيئة في لبنان، فإن مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية يعاني هو ذاته من مشاكل فساد، حيث اتهمه الجميع تقريباً بالاختلاس من الأموال المسؤول عن الإشراف عليها في عملية المناقصة. حتى وزراء الحكومة الذين أجريتُ مقابلات معهم شاركوا في توجيه الاتهام إليه، وأشار البعض إلى أن “حزب الله” نفسه لديه مسؤولون داخل بعض الوزارات، مثل مكتب وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية، وظيفتهم الوحيدة هي الحصول على المال من أجل الجماعة المدعومة من إيران. ومن المتعارف عليه على نطاق واسع في لبنان أن تُنهب أموال الوزارات من قبل الجماعات السياسية، وذلك من خلال وزراء معينين يقومون بدور المحاسبين المراوغين الساعين إلى اختلاس الأموال العامة من أجل أسيادهم.
أوضحت التحقيقات التي أجريت حول ممارسات مكتب وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية أن هناك مجموعة جيدة التنظيم من المسؤولين الذين يعملون جنباً إلى جنب مع رجال أعمال ذوي صلاتٍ سياسية، والذين يوفرون المعدات للمشاريع التي يمولها الاتحاد الأوروبي، بغض النظر عن الكفاءة المطلوبة. وقال مصدر أصر على عدم ذكر اسمه، “دائماً ما تحصل الشركات ذاتها، على جميع العقود مرة تلو الأخرى، وهذه الشركات مقربة للغاية من المسؤولين في مكتب وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية”. طُرحت هذه النتائج على مطر الذي يزعم أنه يهدر وقته في مهمة ميؤوس منها في كل مرة يشتكي من “الفساد” المتستر وراء عملية بناء المحطة.
أضاف مطر، “لم نخبر مكتب وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية أكثر من مرة حول ما يحصل فحسب، بل حاولنا مقابلة الوزيرة التي كانت تشغل المنصب وقتها شخصياً لكنها تجاهلتنا تماماً”، شاعراً بالقلق من قول ذلك في مقابلة مسجلة في بلد بلا قانون، حيث يمكن أن يُودي مثل هذا الحوار بحياتك. يبتسم ويحاول انتقاء كلمات مناسبة سياسياً عندما أتحدث بلا مواربة عن اتهامات الفساد الموجهة إلى مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية. “لم يؤدِ مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية واجبه كما ينبغي، سواء في مجال السياسة أو الفساد (ويبتسم). لم يأتوا حتى ولو مرة واحدة للتحقق مما إذا كانت المنشأة تعمل أم لا. سأقول بكل تأكيد إنهم لا يؤدون عملهم بشكل صحيح”.
وسط هذه الادعاءات نجد محمد براقي، الموظف المسؤول عن إصدار القرارات الخاصة بالعقود المربحة والذي كانت الهالة العامة المحيطة به والتي تتسم باللامبالاة والازدراء العدواني تجاه مصانع الاتحاد الأوروبي، مذهلة للغاية.
في مقابلة مسجلة، لم يعترف فحسب بأن المصنع الممول من قبل الاتحاد الأوروبي لوث بالكامل المياه المحيطة بمصنع المنية، لكنه أيضاً أعزا ذلك عرضياً إلى أن نوعية مكب النفايات المستخدم غير مناسبة، وأضاف لاحقاً أنه يمكن بسهولة تشييد مكب نفايات جديد بتكلفة زهيدة أو من دون تكلفة على الإطلاق.
بغض النظر عن المفارقة الهزلية المتمثلة في كونه رئيس مدراء المشروعات وأنه هو بذاته من اتخذ جميع القرارات، كان قنوطه من المنية وتجاهله الآثار المترتبة على الصحة العامة يثيران الذعر، وربما يمنحنا هذا فكرة عن سبب فشل المحطات ولماذا جعل “الفساد” -الذي اعترف أنه جزء من المشكلة- نجاحهم شبه مستحيل. وفي المقابلة المسجلة، والتي في بعض الأحيان ينحدر مستواها لتتحول إلى مهزلة، يعترف بأن جميع المحطات “لا تعمل بشكل جيد”، لكنه ينفي وجود مخالفات من جانبه ويلقي اللوم على عدم وجود أيّ قانون حقيقي في لبنان لتنظيم الأمور في هذا القطاع، لا سيما عملية تحويل النفايات سماداً، وغياب رقابة وزارة البيئة.
وينفي وجود أي إهمال أو سلوك غير مهني من جانب مكتب وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية، في ما يتعلق باختيار الشركات التي تحصل على العقود، ويقر بأنه يشعر “بالقلق” من محطة المنية، بل ويعترف بأن السماد يمثل تهديداً على الصحة العامة. “لا أقول إنه آمن. تتأثر جودة السماد العضوي دائماً بالمادة التي تأتي إلى المصنع. لا أستطيع التحكم بما يُلقى في بالقمامة”، أضاف بينما يهز كتفيه بلا مبالاة.
لكن هذا ليس مقنعاً تماماً. تشبه الطريقة التي يصف بها براقي كفاءة المحطة التي بناها بنفسه، الطريقة التي قد يشير بها طبيب مُرهق إلى لاصق جروح استُخدم لمساعدة مريض بأطرافٍ مبتورة. يقول إن 50 في المئة من النفايات الآتية إلى المحطة تُعالج “على الأقل،” قبل أن تعود مرة أخرى إلى مكب النفايات، لكنه لا يعترف أن هذا السماد الذي تنتجه المحطة يلوث منسوب المياه الجوفية تقريباً بالقدر الذي تسببه القمامة الأولية التي يتم إرجاعها إلى المكب. تعتبر أغلبية محطات الاتحاد الأوروبي في الأساس مضيعة كبيرة للوقت والمال والجهد والإدارة، وفي معظم الحالات تمثل تهديداً خطيراً على الصحة العامة، ناهيك بكونها إهداراً مدهشاً لأموال دافعي الضرائب في الاتحاد الأوروبي. وتعتبر في معظم الحالات انتصاراً للعبثية والغرور الهائلين. ويبدو أنه سيعترف في نهاية المقابلة، مع إقراره بوجود 5 محطات فقط من أصل 12، يزعم أنها لا تحدث أيّ تأثير على البيئة مطلقاً. لكن حتى هذا التقدير يعد حماقة ويفتقر إلى الصدقية.
إذ يبين اختبار معملي طلبه الكاتب وأعده براقي على مضض لإظهار مدى جودة السماد العضوي في أحد أفضل مواقعه، وجود مستويات مرتفعة بصورة مفزعة من بكتيريا “الإشريكية القولونية” في السماد العضوي.
القرع على طبول جوفاء
ومع ذلك، كان ردّه على الادعاءات المقدمة إليه، هو أن العقود الممنوحة لتلك الشركات مثيرة للشكوك على أفضل تقدير، وهذا هو جوهر المسألة. فهذه العقود وسرعة بناء تلك المحطات والتي بدأت في إثارة مخاوف الاتحاد الأوروبي عام 2017، دفعتا أحد المسؤولين الفرنسيين للتحقيق في الدواعي التي أفضت إلى الإهمال الوظيفي المُتعمد في نشاط البرنامج بأسره. شعر المسؤول الفرنسي بالصدمة مما ما رآه، ودفعه القلق الشديد الذي ألم به إلى اللجوء لشركة استشارية خارجية من اليونان، لتحاول سراً الحصول على بعض المعلومات للتأكد من هذا الأمر.
منذ عام 2014، لم تسفر القضية التي انطوت على إهدار ما يقارب 60 مليون يورو فقط عن وقوع كارثة في المنية، بل أيضاً عن إغلاق محطتين أخريين في جنوب لبنان، في اللحظة التي حصل فيها المقاولون على أموال الاتحاد الأوروبي لبدء بنائهما. وفي خضم ذلك، حاول براقي حماية نفسه، وأبدى إلى حد ما حالة من الإنكار النابع من الغرور، فيما وجد صعوبة بالغة لقبول حقيقة تورطه في هذين الفشلين وإهدار تلك الأموال. ففي حالة المنية، شمال لبنان، لم يتوقع أن كثيرين قد تساورهم الشكوك في أن الشركة التي تنحصر خبرتها في صناعة السيور الناقلة، تُمنح عقداً بقيمة 480 ألف يورو لبناء اسطوانات ضخمة، لتحويل النفايات أسمدة، والتي تتطلب صناعتها تقنيات خاصة. أما بالنسبة إلى حقيقة أن تلك الأسطوانات لم تؤدِ عملها أبداً كآلات لصناعة السماد العضوي، فقد أنكر بشدة تلك التهم التي كشف عنها كاشف الفساد.
على رغم ذلك، توصل البحث الذي أجريته إلى أنه تم تركيب الأسطوانات في المنية عام 2005 وبعد 5 أيام من بدء عملها، لم تنتج أي سماد عضوي. وعندما تعرض براقي لبعض الضغوط، فسر ذلك الفشل بأن “هذه التقنية زائفة”، ولا يمكنها النجاح في لبنان، وهو ادعاء مثير للفضول، نظراً إلى أن إحدى الشركات التي لا تزال تصنع تلك الأسطوانات، يمكنها أن تؤكد أن ثمة محطة واحدة على الأقل في لبنان، حيث لا تزال تلك التقنية تعمل بكفاءة حتى اليوم. ناهيك باستخدام الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) في لبنان تقنية الأسطوانات الكبيرة ذاتها على مدار 30 عاماً. ويقول إن استخدام تقنية الأسطوانات لم يكن سوى “تجربة” في المنية، بيد أنه لم يُقدم تفسيراً للظروف الغامضة، التي تمكنت من خلالها الشركة التي حصلت على العقد – وهي شركة متخصصة في إنشاء الطرق، تعاقدت على هذا العمل من الباطن مع شركة لصناعة السيور الناقلة – أيضاً من “التوريد” إلى موقعين آخرين، وأبدى غضبه الشديد عند التلميح إلى وجود فساد.
ولكن بصرف النظر عن ادعاءاته السخيفة بأنه كبش فداء للاعبين الكبار وإدارتهم السيئة، فالحقيقة هي أن الأسطوانات لم يكن من المفترض أن تنجح على الإطلاق، بل أن تعمل فقط، كما لو أنها كانت دائماً مجرد حيلة مثل التي يستخدمها الساحر، للحصول على الأموال السريعة من الاتحاد الأوروبي.
وكشفت تحقيقات أدلة مخفية في وثيقة سرية تدين “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية” بشكل أكبر. وذكرت الدراسة التي أجرها باحثون في الجامعة الأميركية في بيروت عام 2005، بوضوح خطر تلوث المياه، إذا لم تتم عملية تحويل النفايات أسمدة بشكل صحيح، وكذلك خالفت ما قاله براقي، حين أخبر مؤلف الدراسة أن البلديات نفسها هي التي اختارت تلك التقنية.
وأشارت الدراسة بوضوح إلى أنه كان من المفترض أن تحصل إحدى الشركات “سيدر إنفيرومنتال” Cedar Environmental، على عقد توريد الأسطوانات. وقدم رئيس الشركة، زياد أبي شاكر، وهو عالم بيئة ورجل أعمال، التصميمات التي وردت في الدراسة، وأعطى الباحثين مخططات الأسطوانات وأبعادها.
أين المساءلة؟
عن غير قصد، أعطى رجل الأعمال أبي شاكر، الذي يبلغ من العمر 50 سنة، وهو أحد أعضاء حملة قانونية لحظر مرافق ترميد النفايات من العمل في لبنان، “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية” كل ما يحتاج إليه لتسليم المخططات إلى إحدى الشركات الأخرى التي يفضلونها.
هل يعاني “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية”، الذي يُفترض أنه الجهاز الحكومي المسؤول عن مكافحة الفساد، من مشكلات الفساد الخاصة به؟
يرى أبي شاكر وآخرون أن ذلك صحيح. عندما تواصلت معه، بدا متفائلاً بشكل ملحوظ بالنسبة إلى رجل خسر نصف مليون دولار وسُرقت التقنية التي تقدمها شركته. وكما هو متوقَّع، فإنه يدعو إلى فرض ضوابط أكثر صرامةً على المنشآت الممولة من الاتحاد الأوروبي. وقال ساخراً “كان يجب أن يكون هذا هو الحال من اليوم الأول. لا يُمكنك أن تدع السباكين يجرون عمليات جراحية بالعين، مهما كانت علاقتهم بإدارة المستشفى”، وأضاف “لا يُعرف عن مشروعات الخدمة العامة في لبنان أنها تخضع حقاً للمساءلة… بيد أن ما يثير الدهشة، هو أنه حتى المشروعات الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي لم تخضع للمعايير الصحيحة للمساءلة… مما أفضى إلى نتائج كارثية”.
وفيما يخص بلدة المنية، فقد أعرب عن ثقته التامة في فشل “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية” في بناء وتشغيل المحطة وما يترتب عليه من آثار. وقال “من الواضح أنه بسبب فشل وحدة تحويل النفايات أسمدة عضوية في المنية، أُلقي الجزء الأكبر من النفايات العضوية بلا معالجة في مكب النفايات التابع لبلدة عدوة، وبما أن هذا المكب غير مُطهر، فقد تم الوصول إلى الحد الأقصى من تكديس النفايات بسرعة، وتعرضت المياه الجوفية إلى التلوث الشديد”.
وزير الصحة يستخدم كلمة “سرطان”
أثار انعدام المساءلة وعدم إجراء مراجعات مستقلة للحسابات، ناهيك بمنح “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية” عقود بناء المنشآت لشركات مشبوهة، مع تجاهل تحذيرات الخبراء بشأن الصحة العامة، لا سيما وزير الصحة اللبناني السابق الذي لا يبدو عليه أنه تفاجأ على الإطلاق من نتائج التحقيقات، على رغم الآثار المترتبة على انتشار الوباء على نطاق واسع في جميع أنحاء البلاد.
ففي مقابلة حصرية أجريت معه في كانون الثاني/ يناير الماضي، لم يُقر غسان حاصباني، نائب رئيس مجلس الوزراء اللبناني (ووزير الصحة السابق)، بأن “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية” يعاني من مشكلة مع الفساد فحسب، بل تجاوز ذلك ودعا إلى إجراء إصلاح شامل لمثل هذه البرامج الممولة من جهات دولية، مؤكداً أن الاتحاد الأوروبي نفسه ينبغي أن يتبع نهجاً أكثر تشدداً، وأن يكون ذلك جزءاً من عملية التمويل، وينبغي ألا يستمر “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية” في القيام بدوره في تخصيص شركات بعينها لمنحها العقود.
وأردف: “يجب ألا تعتبر الهيئات التي تقدم المساعدات، “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية” بوصفه سلطة تمويلية أو هيئة لتمويل البلديات”. وأضاف “أنا أؤيد تماماً منع الفساد من البداية… إذ تُمثل عملية طرح العطاءات مرحلة بالغة الأهمية، عندما يتعلق الأمر بالشفافية… بيد أنني أجد صعوبة في فهم المنطق الذي يستند إليه تمويل الاتحاد الأوروبي، لمثل هذه الهيئات”.
وتابع، “ينتابني قلق شديد، فيما نشهد انتشار بعض الأمراض مثل السرطان، الناجمة عن أزمة إدارة النفايات الصلبة في المناطق التي تعاني من تلوث المياه… فقد أخذنا بأنفسنا عينات من المياه في أجزاء مختلفة من البلاد، ووجدنا أن منسوب المياه الجوفية يتأثر بشدة، بسبب سوء إدارة قطاع النفايات الصلبة عموماً”.
“سوق الفساد” يحاصر الاتحاد الأوروبي
قصة الخلل الوظيفي في المنية، واقعة فردية معزولة، في ما يخص محطة إعادة التدوير الهزلية التي أنشئت هناك. فقد أدى غياب المساءلة والمحاسبة بشأن مثل هذه المشروعات في السنوات الأخيرة إلى خلق طبقة من الفاسدين، يحرصون على جني أقصى المكاسب من تلك “الأعمال” التي يُمكن فيها ربح مليون دولار أو اثنين، بمجرد إجراء مكالمة هاتفية مع الشخص المناسب.
وكشف جزء من التحقيق الذي أجريناه عن أحد رجال الأعمال الشرعيين، الذي تم التواصل معه من قبل وزير سابق في الحكومة وقدم له اقتراحاً بإنشاء أحد المشروعات الوهمية، لكي يملأ جيوبه بأموال الاتحاد الأوروبي، والتي “تدار” من خلال “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية” سيئ السمعة.
والأدهى من ذلك، من بين أكثر من 10 محطات لإعادة التدوير وصناعة السماد العضوي التي تُمول من قبل الاتحاد الأوروبي، وجد صاحب الشكوى أن اثنتين منها تم إنشاؤها بالفعل، وبمجرد استلام الأموال من الاتحاد الأوروبي، سرعان ما أُغلقت في ظل ظروف مريبة، إن لم تكن بالأحرى مثيرة للسخرية. إضافة إلى مجموعة من الخبراء الذين يزعمون جميعاً أن “السماد العضوي” الذي أنتجته تلك المحطات ليس فريداً من نوعه فحسب، بل إنه أيضاً غير مطابق للمواصفات القياسية.
مشاريع وهمية
وديع الأسمر، الزعيم السابق لحملة “طلعت ريحتكم” (Youstink)، وهي حركة احتجاجية، وأحد الناشطين البارزين في مجال حقوق الإنسان ليس سوى واحد من الذين اعتقلوا سابقاً، بسبب عمله في مجال حقوق الإنسان. كما أنه يدعم الادعاءات بأن معظم المشاريع الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي وهمية – مدعياً أن بعضها يلجأ إلى حرق القمامة أو التخلص منها في جنح الليل، نتيجة لسوء إدارة تلك المشروعات التي لم تستطع التعامل معها منذ البداية.
من بين أكثر من 10 محطات لإعادة التدوير وصناعة السماد العضوي التي تُمول من قبل الاتحاد الأوروبي، وجد صاحب الشكوى أن اثنتين منها تم إنشاؤها بالفعل
وبحسب ما قاله “لا يعني ذلك أن الحكومة ليست لديها الوسائل التقنية للقيام بهذا العمل… بل يشير ذلك إلى أن تلك المشروعات التي يمولها الاتحاد الأوروبي تكاد تكون غير فعالة تماماً”.
وأردف “معظم هذه المشروعات تبوء بالفشل بسبب الفساد، ووجود شعار الاتحاد الأوروبي عليها لا يحدث فرقاً يذكر. ففي أحد تلك المشروعات، سُرقت المعدات منذ بداية المشروع… ولم يحقق أي منها في الواقع النتائج المرجوة منه، بينما لا يبدو أن الاتحاد الأوروبي يعبأ بذلك الفساد المتواصل”.
أضاف الأسمر في كانون الأول/ ديسمبر عام 2018، “في معظم الأحيان، مثل هؤلاء السياسيين يجعلون من المستحيل حقاً محاسبة المجرمين، لذا فإننا لا نعتمد كثيراً على روايات السياسيين”. وتابع “تكمن المشكلة الرئيسية في برنامج الاتحاد الأوروبي، إنه برنامج استثماري، وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي يقوم ببناء المشروع، ثم يتوارى خلف حقيقة أنه ليس مسؤولاً عن الإدارة ولا يمكنه التدخل بمجرد تسليم إدارة المحطة لـ “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية”. هذه الأنظمة تحتاج إلى إعادة تنظيمها بطريقة تضمن المزيد من الشفافية والكفاءة”.
أما في ما يتعلق بالمنية، فإن موقف الأسمر واضح: “بالتأكيد، كان من الممكن أن يحول وجود تقييم حقيقي وشفاف دون وقوع مثل هذه الأخطاء الجنائية. ولهذا السبب، نصر على إجراء تقييم منهجي قبل البدء في أي مشروع”.
في الواقع، يصعب تصديق أنه حتى الآن لم يتم إنشاء لجنة متواضعة من الخبراء البيئيين لفحص طلبات الشركات المقدمة للحصول على عقود الاتحاد الأوروبي المربحة، في دولة من المفترض أنها تتعاون مع الأكاديميين. بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هو، لماذا يُبدي الاتحاد الأوروبي مثل هذا الرفض تجاه الكشف عن الفساد وتمكين الشركات المناسبة للقيام بالمشروعات التي يمولها؟
يعتقد البعض أن ذلك يُعزى إلى أن لبنان يبتز الغرب عموماً، نظراً إلى أنه يوفر ملجأً لما يزيد على مليون لاجئ سوري. ويعتقد آخرون أن ذلك يرجع إلى رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي الحالية، التي قد تشعر بالقلق من إثارة المشكلات التي قد تلفت النظر إلى عمليات إهدار الأموال التي اضطلعت بها بنفسها، مثل القصر الذي تبلغ قيمته 10 ملايين دولار التي استأجرته لكي يكون محل إقامتها الخاصة، وهو قصر ضخم يفوق الخيال استغرق إعداده سنة كاملة لكي يطابق مواصفاتها الخاصة، والذي يدفع ثمنه دافعو الضرائب في الاتحاد الأوروبي.
يعتقد آخرون، من بينهم خبير رائد في مجال مكافحة الفساد، أن الاتحاد الأوروبي عالق الآن بكل بساطة، في اللعبة التي دخلها مع النخبة اللبنانية، التي ترى مئات الملايين من اليوروهات التي يمنحها الاتحاد الأوروبي للبنان، باعتبارها سيلاً مشروعاً من الأرباح لتبذيرها. أضف إلى ذلك علاقة الاتحاد الأوروبي المتقلبة مع إيران، راعية “حزب الله”، وقوة الجماعة الشيعية في لبنان، وسيسهل فهم كيفية خروج الأمور عن السيطرة.
مافيا السياسة والفساد
يشرح ربيع الشاعر، وهو محامٍ ترأس سابقاً إحدى منظمات الشفافية في لبنان، “من الواضح أن المافيا السياسية اتفقت على تقسيم مساحات الفساد للتقليل من خطر التصادم في ما بينهم. ولذا لدى كل فصيل سياسي شركاته الخاصة التي تدير نصيبه من سوق الفساد”.
ويردف “فهم المانحون الدوليون هذا التوازن. ويدركون أن هذا هو الثمن الذي عليهم دفعه للعمل في لبنان”.
مع ذلك، بدأ هذا الفخ الذي تجد وكالات الاتحاد الأوروبي نفسها عالقة فيه، بإثارة قلق مسؤولين كبار في بروكسل. فقد شعر أحد النواب المحترمين في دائرة العلاقات الدولية في البرلمان الأوروبي بالصدمة جراء ذلك الأمر، ويدعو الآن إلى إخضاع كامل برنامج التخلص من النفايات اللبناني للتحقيق من قبل هيئة مكافحة الغش التابعة للاتحاد الأوروبي، الواقعة في بروكسل.
تقول أنا غوميز عضو البرلمان الأوروبي: “أنا مهتمة كثيراً بما كشفه هذا التحقيق. فهو لا يشكك في صدقية الاتحاد الأوروبي فقط، بل وكفاءة ضوابطه ونزاهته الداخلية والخارجية، والتي ربما تعرضت للاختراق من قبل معدومي الكفاءة أو المجرمين، وبذلك يعرقلون تحقيق أهداف مساعدات الاتحاد الأوروبي بالكامل، بل ويعرضون حياة الناس للخطر”.
وتضيف: “إلى جانب الهدر الجسيم لأموال دافعي الضرائب الأوروبيين. يطلب هذا الأمر فتح تحقيق عاجل وشامل من قبل الاتحاد الأوروبي، حتى يخضع المسؤولون عن هذا الأمر في الاتحاد الأوروبي ولبنان للعدالة، وحتى تخضع مساعدات التنمية الخارجية المقدمة للبنان فوراً للمراجعة والتصحيح وضوابط أكثر صرامة”.
لكن تغير النظام قد يكون صعباً في بلد تديره عصابات مصممة على تدمير بنيته التحتية بغرض اغتنام المزيد من مساعدات الإنقاذ الأجنبية.
يحذر الشاعر من أنه لو حاول الاتحاد الأوروبي استبدال النظام الفاسد القائم أو تعديله، “سيؤدي هذا إلى توليد سلسلة من المشكلات الخطيرة في لبنان”. بالفعل لا يوجد مثال أفضل على توقف مشاريع المساعدات عندما لا يحصل السياسيون الفاسدون على حصة كبيرة منها، من محطات الصرف الصحي الستّ في لبنان، والتي بنيت كلها في بداية الألفية والمتوقفة عن العمل بسبب شروط المانحين المشددة المضادة للفساد.
والمحصلة هي إلقاء 100 في المئة من مياه الصرف في لبنان، في البحر الأبيض المتوسط، في حين تظل هذه المحطات متوقفة عن العمل، وهو مجاز معبر عن كل ما هو فاسد في نظام معالجة النفايات اللبناني، بالوعة المساعدات الدولية.
في لبنان تنص القاعدة على أن عدم حصول مؤسسة الفساد على حصة كبيرة، يعني أن لا شيء سيتحرك.
في حالة وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية، يؤيد الشاعر فكرة أن الفساد في المنظمة قد لا يكون عبارة عن أفراد يملأون جيوبهم الشخصية، بل ربما هناك فاعلون سياسيون (في هذه الحال حزب الله الذي يسيطر على عدد من الوزراء في السنوات الأخيرة) يحصلون على قدر هائل من المال.
وفي خضم لهفة النخبة المسعورة لوضع يدها على أموال الاتحاد الأوروبي، تتراكم النفايات، من دون أي مجهود لتغطية الاحتيال. هذا هو مستوى ثقة من يتربحون من هذه المساعدات.
يتهكم أنتوني موسى الخبير البيئي، بمحطات الاتحاد الأوروبي “ينفق الاتحاد الأوروبي 60 مليون يورو على هذه المحطات، لكن هذا إهدار للموارد والوقت، لأن الفساد يبتلع كل موارد التشغيل هذه. إحدى هذه المحطات في كفور، شهدت شجاراً بين الأحزاب السياسية حول من يديرها، وكانت هناك فضيحة عن نفايات مستشفى وجدت هناك. وثمة محطة أخرى في أنصار، مهجورة بالكامل الآن، وسرقت كل المعدات منها”.
ومع ذلك، بالنسبة إلى أولئك الذين يلقون نفاياتهم ولا يحرقونها، بل ينتجون سماداً، يتفق معظم النشطاء على وجود مخاطر صحية وبيئية خطيرة، خصوصاً بعد اختبارات المياه التي أجريت في محطة المنية. ما هي احتمالات إنتاج جميع المحطات الممولة من الاتحاد الأوروبي لإعادة التدوير وصناعة السماد، لنفايات خطرة تسمم المياه وتهدد حياة الناس، في بلد لم يتفوق عليه سوى موزامبيق ونيجيريا وأفريقيا الوسطى في معدلات الفساد، بحسب منظمة الشفافية الدولية؟
التحقيق مع المحققين
خلصت الكثير من رسائل البريد الإلكتروني المتبادلة مع ممثلي الاتحاد الأوروبي خلال نحو عامين، إلى أن الاتحاد يعتبر نفسه غير مسؤول عن كيفية إدارة الأموال، ما إن تخرج من خزائن الاتحاد.
اعترف سلف الخبير الحالي، الذي غادر في 2017، أن المحطات عانت من بعض المشكلات، مؤكداً أن الاتحاد الأوروبي يدفع فقط للإنشاءات. يشرح قائلاً: “صحيح أن التشغيل والصيانة هو هم أساسي والشركات الخاصة التي تتولى الصيانة والتشغيل لا تلتزم مهماتها دائماً. لكن عمليات التشغيل والصيانة هذه تمولها الحكومة ولا نمولها نحن”.
لكن كيف يكون انعدام المسؤولية الضار هذا مقبولاً؟ تقول إحدى الحجج إن الاتحاد الأوروبي ربما يحاول التغطية ويريد إسدال ستار على الفشل المريع لمشاريع معالجة النفايات الخاصة به في لبنان.
بعد 15 عاماً، لا توجد ولو محطة واحدة قادرة على إنتاج سماد يمكن بيعه للمزارعين. من الواضح أن الاتحاد الأوروبي يحاول التستر على فشله المذهل في المواقع الـ 12 ويلقي باللوم على سواه.
وكيف يتوقع الاتحاد الأوروبي أن يؤخذ على محمل الجد، في حين يدفع لشركة استشارية تعد جزءاً من دائرته السياسية المترهلة في بروكسل؟ هل تمت الاستعانة بشركة LDK، مثل الكثير من الشركات الاستشارية التي تمتلك مكاتب فخمة قريبة من المفوضية الأوروبية، لكشف الصفقات القذرة لوزارة الدولة للتنمية الإدارية أم التغطية عليها؟ بالطبع كان على وكالة OLAF، التابعة للاتحاد والمعنية بالتحقيق في قضايا الغش، تولي التحقيق بنفسها، وليس شركة استشارية، يمكن التلاعب بها؟ وما هي الصورة التي ستصل لوزارة التنمية الإدارية، حين يرفض المسؤول الفرنسي الذي وصل في 2017، التوقيع على مساعدات بقيمة 17 مليون دولار، ليس بسبب تبذيرها على شركات مشبوهة، بل لأن هذا سيتعارض مع خططه للصيف؟
بعد 15 عاماً، لا توجد ولو محطة واحدة قادرة على إنتاج سماد يمكن بيعه للمزارعين. من الواضح أن الاتحاد الأوروبي يحاول التستر على فشله المذهل في المواقع الـ 12 ويلقي باللوم على سواه.
لم يخلق الاتحاد الأوروبي، بموافقته المشبوهة والضمنية بتحويل أموال هذه الصناديق إلى مجموعات مثل “حزب الله”، كارثة بيئية فقط، بل يعرض نفسه للمساءلة القانونية كذلك. يصف وديع الأسمر قضية المنية بالجنائية ويطالب باتخاذ إجراءات ضد مكتب وزارة الدولة للتنمية الإدارية والشركات المتورطة. من غير المرجح أن يحدث هذا، لكن على المستوى المحلي، بإمكان الاتحاد الأوروبي عبر (مكتب مكافحة الغش OLAF) أن يضغط على الحكومة اللبنانية لمحاكمة مسؤولين من المجالس المحلية والبلديات، كما اقترح عضو البرلمان الأوروبي. هذه الفكرة أكثر قابلية للتنفيذ، وفقاً لأستاذ في القانون البيئي، وافق على الحديث من دون الكشف عن هويته خوفاً من العواقب.
يؤمن زيد أبي شاكر، بأن على الاتحاد الأوروبي الاطاحة جذرياً بعملية تقديم العطاءات هذه. يقول: “عندما لا يتحمل أحد المسؤولية في أي مشروع، تتزايد هذه النزعة حتى تصل إلى مستويات غير مسبوقة، ثم يحدث أمر من اثنين: إما أن يتوقف التمويل تماماً، أو أن تفرض معايير جديدة صارمة للحساب والمسؤولية”.
ادمان الاتحاد الأوروبي على صب مئات ملايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأوروبيين في مشاريع مزيفة في لبنان، فاضح على مستويات عدة. من الواضح أن المال من أجل الهيمنة موجود في المعادلة، لكن ربما تورط الاتحاد الأوروبي عميقاً لدرجة أن أي محاولة لإيقاف هذا الجنون، ستؤدي إلى فضيحة إعلامية لا تستحق كل هذا العناء بالنسبة إلى بعثة الاتحاد الأوروبي. لكن الأسوأ من ذلك، هو لا مبالاة المسؤولين الأوروبيين الذين ينفقون الأموال كرجال عصابات، خرجوا من السجن ويعيشون في منازل ريفية باذخة وبأسلوب عيش نجوم الروك، وهو ما يشجع على الوصول إلى مستويات غير مسبوقة من الفساد، الذي أصبح صناعة بحد ذاته في لبنان. وسيتصدر عناوين الأخبار مجدداً عندما يعلن رسمياً أن الماء هو المصدر الأساسي للأمراض المزمنة، والمحطات الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي هي المسؤولة.
نما سوق الفساد كثيراً في الحجم والسلطة وفي متناول يد السياسيين، إلى درجة أنه يضع عينيه الآن على منشآت لترميد النفايات تبلغ قيمتها 300 مليون دولار. ويريد من الاتحاد الأوروبي شراءها، للحفاظ على دورة صب المال في الثقب الأسود، الذي نما بشكل مضاعف، في بلد حطم الأرقام القياسية في معدلات تدهور البيئة، وفي محيط ملوث بالكامل بسبب صب مياه الصرف الصحي فيه، بعد فشل محطات الصرف الصحي الأوروبية، إضافة إلى 12 موقعاً لإعادة التدوير وصناعة السماد، إلى جانب تلوث المياه الجوفية المستخدمة من قبل المزارعين لري المحاصيل، في حين تحرق المجالس البلدية النفايات ليلاً مطلقةً العوادم والملوثات في الهواء.
أصبحت مرافق ترميد النفايات الآن، التي ستجلب الملايين لخزائن النخبة (وميليشياتها)، موضع التركيز الجديد، على رغم المنتجات الثانوية الناتجة عن تلك العملية (وأهمها الرماد)، والتي يجب التخلص منها في أماكن خاصة لدفن النفايات. وبما أن الاتحاد الأوروبي فشل، كما كشفت التحقيقات حتى في إجراء أبسط اختبارات المياه في المنية، قبل أن يوقع على التمويل، إذاً هل يُمكن أن نتوقع أن يولي اهتماماً بالآثار المروعة المترتبة على وجود مرافق ترميد النفايات؟ وهل ستكون ذريعة الحكومة اللبنانية أن “المياه الجوفية كانت ملوثة بالفعل 100 مرة أكثر من المستويات الآمنة في أي مكان آخر قريب بفعل الأسمدة السامة، ولذا ما الفرق الذي سيحدثه الرماد السام الصادر عن مرافق ترميد النفايات؟”.
احتفل الاتحاد الأوروبي بوجوده في لبنان منذ 40 عاماً في 9 أيار، وهو أمر مبتذل ومثير للسخرية، إذ تحدثت رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان السفيرة كريستينا لاسن، أثناء الخطاب الذي ألقته عن حجم العمل الكبير الذي يقوم به الاتحاد الأوروبي في لبنان في قطاع البيئة – أو حتى سفراء دول الاتحاد الأوروبي – مثل سفير المملكة المتحدة – الذي يدعمها، ويدعي أنه مدافع عظيم عن حرية الصحافة، ولكنه مع ذلك، لم يتمكن من دعم التمويل الجماعي لهذا التحقيق. لا يتسم المجتمع الدولي بالنفاق وحسب، في دعمه الدؤوب لتدمير البيئة اللبنانية، وزيادة حالات الإصابة بالسرطان، ولكنه أيضاً هو طرف رئيسي فاعل في تمكين المافيا وجعل البلاد منطقة كوارث، لتختلس المزيد من أموال المساعدات، الأمر الذي يحدث في الوقت الراهن، بتقديم مساعدات لبيروت تبلغ قيمتها 11 بليون دولار من “الجهات المانحة” – التي ستدفعها الأجيال المستقبلية في الواقع، في صورة ضرائب مرتفعة، وخدمات دون المستوى، ووظائف أقل، ومعدلات جريمة أعلى، وخدمات صحية أسوأ بكثير.
حان الوقت ليفيق اللبنانيون على هذه الحقيقة، ويبدأوا بمحاسبة قادتهم، بدءاً ببرنامج الاتحاد الأوروبي لإدارة النفايات الذي تحوم حوله شبهات جنائية في لبنان، وتفوح منه بالفعل رائحة كريهة.
أنجز هذ التحقيق : مارتن جاي
ملاحظة المحرر: في كانون الثاني/ يناير، تولت حكومة لبنانية جديدة مهماتها، وتم تعيين وزير جديد لـ “مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية”. بيد أن وزير البيئة السابق لم يستجب عندما طُلب منه إجراء مقابلة معه. وأحالت رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان، جميع الأسئلة عبر البريد الإلكتروني إلى مسؤول البيئة الخاص بها. كما كان وزير مكافحة الفساد السابق في لبنان بصدد التحقيق في تخصيص العقود المذكورة في هذه المقالة. ودعا وزير البيئة الجديد في نيسان/ أبريل 2019 إلى إغلاق مكب النفايات في بلدة المنية (العدوة).
هذا التحقيق ترجمه موقع “درج” عن International Policy Digest
ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط