في ذكرى مقتله التاسعة: هل باعت إيران حليفها بن لادن ضمن صفقة “البرنامج النووي”؟
قبل حلول الذكرى التاسعة لمقتل أسامة بن لادن في 2 مايو (أيار) الحالي، عاد تنظيم القاعدة، الذي كان يتزعمه، إلى الأضواء مجدداً، إثر بروز نجله حمزة ومنافسه الأبرز أبو بكر البغدادي، ومعهما الدور الإيراني في دعم القاعدة وتوظيفه ورقة لتهديد استقرار محيطها، وتحقيق مكاسب سياسية. وذلك وفقاً لمعطيات جديدة لم تكن قيد التناول في الماضي.
وبدأت خيوط اللعبة تنكشف أول الأمر، عندما تلقت عائلة بن لادن في مدينة جدة غرب السعودية، رسالة مجهولة المصدر بغتة، لا تعرف كيف وصلت، ولا من أوصلها؟.
إلا أن مضمونها، وفق مصدر مقرب من العائلة، تحدث إلى “إندبندنت عربية” كان واضح الدلالة بأنها آتية من زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، يستغيث فيها بما تبقى من وشائج القربى لدى عائلته العريضة، وهو يطلب منها التدخل ليس من أجل وضع حد للحصار المطبق عليه يومئذ في مخبئه كما يزعم، لكن من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه باستعادة عائلته من إيران بأي ثمن، المهم أن تُرفع عنهم أيدي نظام ولاية الفقيه.
وقال المصدر، الذي قرأ الرسالة المطولة، إن بن لادن تحدث فيها إلى عائلته، وكأنه يثير الحمية في نفوسهم، ويقول إنه يشعر بحبل المشنقة يطوّق رقبته، ولا يرى أي أمل للفكاك منه إلا عبرهم، ذلك أنه وجد من تعامل الإيرانيين مع تنظيمه أنهم ينوون الغدر به وابتزازه عبر عائلته التي يستضيفونها، إن لم يكن عن طريق استخدامهم ضده، فبواسطة تدجينهم وتشكيلهم فكرياً كما يشتهون
أنقذوا أبناءكم من إيران!
وروى المصدر لـ”إندبندنت عربية” أن الرسالة جاءت قبل أشهر من مقتل بن لادن، وكانت أهم نقطة برر بها توجيه الرسالة إليهم قوله: “إنهم محسوبون عليكم مهما يكن من أمر، وإذا تم غسل أدمغتهم من طرف الإيرانيين فإنكم جميعاً ستندمون. إذا لم تبالوا بمصير أسامة، فإن هؤلاء أبناؤكم وليسوا مطلوبين لأي جهة أمنية، ولم يتورطوا في أي نشاط يمكنكم أن تخشوا منهم بسببه”.
لكن عائلة بن لادن، التي قام زعيم القاعدة بالنيل من سمعتها النبيلة، ماذا يمكنها أن تصنع إزاء رسالة بهذا الحجم، وهي بالكاد تعيد ترتيب أوراقها بعدما ألحق بها المستغيث من أضرار وأوجاع، وهو الذي قاد تنظيماً دموياً، لم يوفّر حتى المدينة التي يسكنون، فما كان منهم إلا أن مزَّقوا الرسالة وأتلفوها كأن أمراً لم يكن.
غير أن الرسالة يقول المصدر “بدت لي يومئذ كما لو أنها الكلمات الأخيرة لبن لادن، الذي نعرف كم هو محاصر، ويجري البحث عنه على قدم وساق في ذلك الحين، بعد حاجة الرئيس أوباما إلى أي منجز رنان يبرر انتخابه لولاية ثانية رئيساً لأميركا”.
ليس واضحاً ما إذا كانت تلك الرسالة هي الأولى التي تتلقاها عائلة بن لادن من زعيم تنظيم القاعدة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) أم لا، إنما الأكيد أنها الأخيرة، إذ سريعاً ما أعلن الأميركيون اقتناص بن لادن في أبوت آباد الباكستانية يوم الإثنين 2 مايو (أيار) 2011.
ومع أن الجميع شاهد خبر الحادثة، إلا أن أسرة بن لادن الصغيرة، كما تقول المصادر التي تحدثت إلى “إندبندنت عربية”، كانت بين قلة من المعنيين بالأمر شاهدوا صورة أسامة بن لادن الحقيقية بعد مقتله، إذ اجتمع بهم مسؤول أميركي في جدة بالتنسيق مع السلطات السعودية، فروى لهم وقائع الحادثة رسمياً، وأطلعهم على صور موثقة محظورة التداول لابن لادن مقتولاً، وأخذت منهم عينات لإجراء تحليلات “دي إن إن” لمزيد من التأكيد والتدقيق، وأخبرهم الأميركيون بالرواية نفسها التي أعلنوها للعالم أجمع، من تجهيز وصلاة ودفن.
باراك أوباما في اجتماع بقاعة مجلس الوزراء بالبيت الأبيض بواشنطن 3 مايو 2011 يشرح كواليس توقيعه على خطة شن الضربة التي أودت بحياة بن لادن (أ.ف.ب)
مقتل “سعد” أيقظ الأب
بالعودة إلى مراسلات بن لادن، التي أفرج عنها الأميركيون، نجد التفسير الذي قاد على الأرجح زعيم تنظيم القاعدة إلى البحث عن طوق نجاة أخير له ولأسرته، ففي إحدى مراسلاته مع رجاله في وزيرستان، حسبما توضح الوثيقة رقم 10، كان بين الموضوعات المطروحة للنقاش، كيفية التعامل مع صور سعد بن لادن المقتول، فبينما يرى فريق بن لادن أن نشرها ضروري لإطلاع الأمة على الوجه الأسود للنظام الإيراني، يختلف معهم بن لادن في ذلك، ويدعوهم إلى الاحتفاظ بها في أرشيف منصة “السحاب” التابع للتنظيم.
وتعود لهجة النقمة نحو طهران إلى قصة طويلة في الوثائق، مفادها أن الاتصال بين القاعدة والإيرانيين، جاء في البداية وفقاً لحاجة الأخيرة إلى طرف يستهدف الأميركيين في العراق وأفغانستان، وحاجة التنظيم من جهته إلى دعم عسكري ولوجيستي استطاع الإيرانيون تقديمه بسخاء كما اعتادوا مع حلفائهم من التنظيمات المتطرفة، بحكم حدودها ذات التضاريس الوعرة مع أفغانستان.
وكان من بين التفاهمات، التي جرى التوافق عليها في 2009، أن تطلق إيران نجل زعيم التنظيم سعد بن لادن ليتوجه إلى أفغانستان، وفق آلية معينة جرى تدبيرها على هيئة هروب من السجن، الذي كان يخضع فيه هو وعائلته إلى ما يشبه الإقامة الجبرية، لكن الذي حدث أن الإيرانيين، حسب اتهام تنظيم القاعدة، سربوا إلى الأميركيين تحركات سعد إلى أفغانستان، فاستهدفه الأميركيون بغارة فقتلته.
الإيرانيون الذين أنكروا رواية القاعدة، ظلوا على اتصال مع التنظيم، إذ لا يزالون يحتفظون بعدد من رموزهم وأسرهم، فيما بقيت أوراق القاعدة للضغط على طهران محدودة، فسادت النقمة منهم، مع بقاء التواصل والتعاون قائمين.
في هذا الظرف على الأرجح جاءت رسالة بن لادن إلى عائلته إثر خشيته أن يكون مصير بقية أفراد أسرته على منوال ما حدث لابنه المقتول، بل راودته فكرة أخطر بأن يستهدفه الأميركيون بالتعاون مع الإيرانيين حين موافقة طهران على إطلاق سراح عائلته ومغادرتها نحوه في باكستان، فهو حسبما تظهر الوثائق لا يخشى على دخول عائلته مذهب ولاية الفقيه مثلما حاول أن يوهم عائلته في السعودية لاستثارة عاطفتها فقط، لكنه خشي على نفسه أيضاً من الاستهداف، بعد أن شك في نوايا الإيرانيين، وأنهم “قلبوا له ظهر المجن”، بعد أن لم يعد التعاون بينهما كما بدأ، ليجيب -وفق الوثيقة رقم 3- مسؤول التنظيم في وزيرستان قائلا “بخصوص ما ذكرتم في رسالة سابقة بأنه قد يذهب بعض الإخوة إلى إيران ضمن خطة المحافظة على الإخوة، فأرى أن إيران غير مناسبة”.
مساعد المحامي الأميركي باتريك فيتزجيرالد يعرض صوراً لـأسامة بن لادن بمؤتمر صحفي في نيويورك 4 نوفمبر 1998 اتهمه خلاله بتفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي بكينيا ودار السلام بتنزانيا (أ.ف.ب)
البرنامج النووي على الخط
العلاقة بين القاعدة وإيران لم تنقطع، إلا أن الثقة لم تعد في مستواها الذي سبق مقتل نجل بن لادن، ولذلك ظلت المفاوضات على إطلاق البقية حذرة من جانب التنظيم أكثر منها من جانب الإيرانيين. هذا ما يمكن أن يفهم من الدفعة الثانية من الوثائق التي أفرج عنها الأميركيون، إذ وثقت طلب أسامة من رجله القوي الذي يدير أمور التنظيم في وزيرستان محمود (عطية الله الليبي) أن يوعز إلى الإيرانيين بإرسال عائلته ليس إلى أفغانستان، لكن إلى حيث أمكن نحو قطر أو السعودية، التي يسميها الحجاز، في إشارة من بن لادن إلى أمل استجابة عائلته لطلبه السابق ودفعها لمحاولة إقناع السلطات السعودية بصواب الخطوة التي اقترحها.
لكن عطية الله أجاب رئيسه بن لادن بأن ذلك مستحيل، لأن الإيرانيين “إذا أخرجوه سيدفعونه إلينا بالطرق التهريبية المعروفة، فسوف يصل إلينا، فكيف بعدها نتصرف، إذا أمكن أن نقول لهم اتركوه يمشي إلى قطر سنحاول”.
الإيرانيون الذين بدا أنهم يبحثون عن أوراق لإقناع الرئيس الأميركي السابق أوباما بالبت في صفقة البرنامج النووي الإيراني التي بدأت مفاوضاته السرية في هذه المرحلة أو توشك أن تبدأ، كانوا مستعجلين إطلاق سراح عائلة بن لادن، أملاً في أن يساعد الأميركيين تتبع خطواتهم نحو زعيم القاعدة، في استهدافه، لهذا يوحي تاريخ الوثائق المفرج عنها بأن الإيرانيين بعد منعهم العائلة من أي تواصل مع التنظيم، جعلوا يسهلون على حمزة بن لادن أن يتوسل إلى والده أن يفعل أي شيء حتى يطلق الإيرانيون سراحه.
وقال في رسالته الوحيدة إليه، وهو في إيران، “شاءت الأقدار ووقعنا في أيدي هؤلاء القوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، حيث لا نزال في أيديهم، لكن ما يحزنني حقاً والله، أن قوافل المجاهدين قد سارت ولم ألتحق بها، ولا زلت واقفا مكاني تمنعني قيود الحديد، وقد قضيت فترة المراهقة وأنا في هذا المكان، ثم بدأت في فترة الشباب وقطعت منها شوطاً، وما زلت في نفس المكان، وأخشى أن أقضي بقية شبابي خلف قضبان الحديد، لكني أريد أن أطلب منك طلبا بسيطا مع أنني على يقين تام بأنك تسعى لإنجازه، وتتمناه قبل ما أتمناه وهو: أن تحاول مع القوم بكل الطرق المناسبة لإخراجنا من أيديهم سالمين آمنين”. وهي الرسالة التي شحنها بكم هائل من العواطف والأشواق، وكانت ضمن الدفعة الثانية من الوثائق، أي التي أفرج عنها 2017.
كان صفقة وانتهت
رجال الخميني وكذا العمانيون الذين كانوا وسطاء في المفاوضات، رفضوا الإجابة عن سؤال “إندبندنت عربية” عما إذا كان مساعدة الإيرانيين في استهداف بن لادن عبر إطلاق سراح عائلته من بين الأوراق المطروحة على الطاولة في أثناء مفاوضات البرنامج النووي الايراني، إلا أن المتحدث الرسمي الإقليمي في وزارة الخارجية الأميركية ناثان تك، أكد لـ”إندبندنت عربية” أن الإيرانيين أقروا صراحة بعلاقتهم مع تنظيم القاعدة، وثبت توظيفهم التنظيم في تهديد استقرار جيرانهم واستهداف الأميركيين في 11 سبتمبر (أيلول).
وقال “النظام الإيراني أكبر داعم للإرهاب في العالم، وبالطبع علاقاته مع التنظيمات الإرهابية تزعزع الاستقرار، وقد اتخذ النظام الإيراني خيارا واضحا، فهو لا يكتفي بالتمويل والتجهيز، بل يقوم أيضا بتغذية الإرهاب والعنف والاضطراب عبر الشرق الأوسط، وفي مختلف أنحاء العالم على حساب شعبه”.
وأكد “تك” أن “الحرس الثوري الإيراني يواصل تقديم الدعم المالي والمادي أو التدريب أو نقل التكنولوجيا أو الأسلحة التقليدية المتقدمة أو الإرشاد أو التوجيه إلى مجموعة واسعة من المنظمات الإرهابية، بما في ذلك حزب الله والجماعات الإرهابية الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين وكتائب حزب الله في العراق وسرايا الأشتر في البحرين وغيرها من الجماعات الإرهابية في سوريا ومختلف أنحاء الخليج”.
أمَّا الإيرانيون فاكتفوا بالإجابة عن الإيميل الذي أرسلته “إندبندنت عربية” إلى وزارة الخارجية الإيرانية بالقول: “تم إرسال الاستفسار إلى القسم المختص في وزارة الخارجية للإجابة عن سؤالكم”، وحتى هذه الساعة لم نتلق إجابة من القسم المختص.
الكاتب السعودي محمد حسن علوان، يرى في مقالة نشرتها “إندبندنت عربية” أن الإيرانيين لم يطلقوا حمزة بن لادن، وقد تربى بين أيديهم، إلا بعد أن اطمأنوا لضمان استمراره على خطى أبيه، الذي جزم علوان بأنه قتل ضمن صفقة، كما سيجد حمزة نفسه ذات يوم خارج المعادلة مثله، على حد قوله.
وأردف مؤكداً “انتهى، على ما يبدو، تأهيل حمزة بن لادن قائداً لمنظمة القاعدة السنية. وكان مركز التأهيل، إيران، رأس التطرف الشيعيّ. وهذه مفارقة أولية ينبغي لها أن تنهي القصة بأكملها قبل أن تبدأ. وهي قصة قصيرة ومكررة، لكنها أثبتت نجاحها. كيف تخلق أداة سياسية تستخدمها في المفاوضات السرية لسنوات عديدة؟”.
واعتبر أن “حمزة هو الأداة اليوم. التحديث الجديد من أسامة. يخرج علينا بعد انتهاء صلاحية الأداة التي سبقته، واسمها داعش. وسيستمر في القيام بدوره المنوط به ما شاء الله للمفاوضات أن تستمر. ثم في صفقة ما يجد حمزة نفسه خارج المعادلة. تماماً مثلما وجد أبوه نفسه في ذلك”.
الرئيس الأميركي باراك أوباما يتحدث مع أعضاء فريق الأمن القومي في ختام أحد الاجتماعات لمناقشة المهمة ضد أسامة بن لادن في قاعة العمليات بالبيت الأبيض 1 مايو 2011 (أ.ف.ب)
كيف حدث الإطلاق والتلاقي؟
الكيفية التي عادت بها عائلة بن لادن وطريقة لقياها به والظروف المحيطة بكل ذلك، من بين أشياء كثيرة توضح الوثائق جانباً منها، عند المقارنة بين القديمة والجديدة، وربطها بالأحداث الإقليمية المحيطة، فمن خلال الوثائق يمكن استنتاج أن عائلة بن لادن عادت بعد مفاوضات، أسرع مما توقعت القاعدة، بدليل أن أحداً لم يكن مستعداً لعودتهم أو للكيفية التي يتم التعامل معهم في وزيرستان، لدرجة دفعت بن لادن إلى توجيه عطية بأن يتخلص من العائدين، ويعتذر إليهم بأن الظروف لا تناسب انضمامهم إلى صفوف التنظيم مجدداً.
وأصدر كذلك أوامره إلى من أصر على العمل القتالي بالانضمام إلى الطالبان، باستثناء القياديين الذين اقترح عطية أن يتم إعادة تأهيلهم وإدماجهم، نظير حاجة القاعدة إلى تعويض خسائرها من قيادات الصف الأول، التي اعتادت الطائرات بدون طيار الأميركية التي تسميها القاعدة “الجاسوسيات” أن تحصدها، على الرغم من أن القاعدة -وفق الوثائق- تعرف كيف تتعامل معه، لولا أن البشر يبقون بشراً، ويتناسون مع ظروف الحياة احتياطات كثيرة كان بن لادن يحض عليها رجاله، قبل أن ينساها هو الآخر، حين أطلت سيدة قلبه خيرية بعد سنوات صبر وانتظار من طهران، قاصدة زوجها المحاصر في آبوت آباد.
وتشير مراسلات التنظيم، إلى أن تدبير أمر عائلة بن لادن استغرق الهم الأكبر في البريد المتداول بين أسامة ورجاله في وزيرستان، فكيف تجتمع العائلة؟ وهل يُبقي عليها التنظيم عنده، ويوفر لها ما استطاع من الحماية، أم ينقلها إلى مكان أكثر أمناً، تحت عينه وحراسة عملائه والمتعاطفين معه داخل باكستان حتى تتحسن الظروف الأمنية، فتلتحق هي برب الأسرة، أو ينضم هو إليها.
كل هذه الاحتمالات وردت في المراسلات وتم نقاشها، إلا أن أخطرها أوصى الجميع باستبعاده، لولا أن اشتياق بن لادن إلى زوجته خيرية أجبره على اعتماده، وهو توزيع العائلة قسمين: فريق خيرية يتجه مباشرة إلى بن لادن حيث يقيم، وآخر يصبر ممثلاً في حمزة ابنها مع قيادة القاعدة في وزيرستان إلى حين.
“خيرية” تنسف احتياطات بن لادن الأمنية
هذا الخيار مع إقراره إلا أنه استدعى تفكيراً طويلاً من بن لادن وتحريات من التنظيم وتفتيشاً لمتعلقات العائلة التي جاءت بها من إيران، بما في ذلك حشوة أسنان أم حمزة خيرية صابر، التي ركبتها في إيران، وكذلك المجوهرات التي كانت بحوزتهم.
وكان رأي أسامة بن لادن أنه إذا كانت الحشوة تم زرعها قبل سنة فإنه لا حرج أن تتركها زوجه، أمَّا إن كانت بعد ذلك، فإن الأفضل أن يستدعى طبيب مأمون فيستبدلها بأخرى أو يخلع السن بالكلية حسب ما يقرر، المهم أن تقطع القاعدة الشك باليقين بأن الإيرانيين لم يزرعوا خلية تجسس في أسنان خيرية ليصطادوا بها رئيس القاعدة، في واحدة من أكثر الأدلة على مستوى القلق، الذي كان يساور التنظيم من نوايا حليفه الإيراني.
قرار توجه عائلة بن لادن إليه في آبوت آباد فيما تكشف الوثائق، جاء متناقضاً مع رسالة وجهها إلى زوجته خيرية يعتذر فيها عن الظروف التي أرغمته على أن يؤجل لقياها إلى وقت آخر تكون فيه المعطيات الأمنية أنسب، لكن الوثائق تفيد بعد ذلك بأنها ذهبت إليه مباشرة، مما يوحي بأن هنالك حلقة مفقودة، فهل كانت خيرية المعروفة بقوة شخصيتها وبّخت زوجها بن لادن، وطلبت منه أن يجتمعا فوراً مهما تكن النتائج، أم أن الظروف الأمنية فجأة تحسنت، وأصبحت تسمح بانضمامها إلى زوجها، أم أن الأخير هو الذي نفد صبره فتجرع كأس السم؟.
يقول بن لادن في رسالته الاعتذارية “إنني منذ عدة سنين أسكن برفقة بعض إخواننا من أهل المنطقة، وهم مرهقون جداً ببقائي معهم من ناحية القلق الأمني، وما يترتب عليه، ومن ثم يصعب عليهم القيام ببعض ما أطلبه منهم، ومن أصعب ذلك عليهم أن أطلب مجيء أحد من الأهل، لكن نظراً لأهمية مجيئك وطول انتظارنا لخروجك من إيران والسنين التي صبرتها هناك فقد استنفدت جهدي، وبذلت ما لا يعلمه إلا الله ليوافقوا على ذلك، لكن مع الأسف الشديد اتضح لي أنهم وصلوا إلى درجة من الإرهاق أدخلتهم في حالة إغلاق شديدة، فطلبوا أن يتركونا جميعاً، وذكروا أن عددنا كبير وفوق طاقتهم”.
وأوضح في تبريره أنه عرض على المتعهدين بحمايته كل الحلول التي يمكنهم بها تقبل انضمام “خيرية” إليه، ولو كانت لوحدها فقط، لكنهم رفضوا، مما دفعه إلى الخروج بقناعة “الانفصال عنهم غير أن ترتيب الأمور يستدعي عدة أشهر، ونحن نسعى في هذا الاتجاه لنرتب مكاناً آخر، تكوني فيه معنا أنت وحمزة وزوجته بإذن الله، فأرجو منك المعذرة وتفهم الأوضاع”.
تواريخ وقرارات موت محقق
عند الرجوع إلى وثائق بن لادن التي أفرج عنها الأميركيون في دفعتيها الأولى والثانية، نجد أن أقربها إلى تاريخ مقتله في 2 مايو (أيار) 2011 كانت الوثيقة التي تحمل الرقم 10، وهي المؤرخة في 22 جمادي الأولى 1432هـ الذي يوافق بالتاريخ الميلادي 26 أبريل (نيسان) 2011، أي قبل 5 أيام من مقتله.
تاريخ الرسالة ليس فقط يعطينا فكرة عن أي شيء يشغل فكر بن لادن في لحظاته الأخيرة، لكن يمنحنا أيضاً تصوراً تقريبياً عن المدة التي بقيها حياً بعد وصول زوجته خيرية إليه في مجمعه، الذي قتل فيه، مما يرجح الفرضية التي كان يخشى منها بن لادن نفسه، وهي أن يتم استهدافه بتواطؤ أميركي – إيراني، ففي تاريخ 23 سبتمبر (أيلول) 2010 كان الموضوع الرابع من مراسلة عطية إلى زعيم التنظيم حمزة ووالدته قائلاً “بالنسبة لأم حمزة فهي جاهزة للانطلاق إلى جهتكم، لكن كنا ننتظر تأكيد الأمر منكم، وأيضاً ننتظر أياماً غائمة مناسبة للحركة حسبما وجهتم”، مما يعني أن خيرية في أحسن الأحوال لم تكن لتصل زوجها قبل مطلع 2011.
وتبرهن كذلك الوثيقة رقم 10 التي خطها بن لادن قبل أربعة أيام فقط من مقتله على أنه لم يعش طويلاً بعد وصول أسرته إليه، إذ جاءت حاملة بعض التوجيهات الضرورية لالتحاق نجله حمزة بالعائلة في آبوت آباد، باعتباره يمثل الدفعة الثانية من العائلة التي تقرر أن تلتحق برب الأسرة، حيث يقيم في نهاية المطاف، فلم يكن مع العائلة في بيت والده حين قتل، بما يعني أنه بلغه الخبر وهو في طريقه إلى موقع سكنى والديه. وتبعاً لرسالة بن لادن السابقة إلى زوجته خيرية، فإن السماح لحمزة بالانضمام إليهم، يعني أنهم اختاروا منزلاً جديداً، واستبدلوا عناصر حمايتهم الأمنية من المحليين، الذين قطعوا أي أمل أمام محاولات بن لادن الأب ضم أسرته الجديدة إليه، مع أن التقارير أجمعت على أن بن لادن قتل في البيت، الذي ظل فيه سنوات عدة، فهل قدم مزيداً من الإغراء للمكلفين بحراسته بما أقنعهم بتوسيع دائرة سكان المجمع؟
ماذا صنع المرافق الجديد؟
المحللون الذين حاولوا معرفة أسباب أخرى لمقتل بن لادن غير التي رواها الأميركيون مثل الصحافي الشهير سيمون هرش، ذكروا فرضيات عدة من بينها أن تكون الاستخبارات الباكستانية هي التي أرشدت حلفاءها الأميركيين إلى موقع بن لادن، الذي كان تحت حمايتهم منذ 2006، وهو ما ينفيه الباكستانيون، بينما صرحت زوجة أسامة أمل السادة في الكتاب الذي أخرجته بأن مقتل زوجها كان بسبب خيانة، لكنها لم تذكر من يكون ذلك الخائن، أهو من الحكومة الباكستانية أم الإيرانية، أم أنه من الدائرة المحيطة بابن لادن؟ وفق الرواية الأميركية، التي قالت إن تحديد مكان اختباء بن لادن تم عن طريق اقتفاء أثر مبعوث خاص له، فهل هو المبعوث الذي كان بن لادن يبحث له عن بديل، أم البديل عنه؟
ففي وثائق عدة، كان طلب بن لادن مستعجلاً لمسؤول التنظيم، أن يبحث له عن مرافق موثوق به، فلما تأخر الترشيح، ذكره مجدداً أنه “بخصوص المُرافق حبذا أن تسرعوا في ترتيب أموره، حيث إنه قد تم بيننا وبين الإخوة المرافقين لنا في تاريخ 9/صفر/1432هـ اتفاق مكتوب بأنه بعد تسعة أشهر لا بد أن نكون قد بعثنا إخوة غيرهم، ليكونوا في رفقتنا، ولا يخفى عليكم أن أمر ترتيب مكان آمن بعد اختيار الشخص المناسب يتطلب وقتاً، فحبذا أن تفيدني بما تصلون إليه بخصوص المرافق في كل رسالة وإن لم يكن ثمة جديد فلا حرج أن تذكروا ذلك”.
مثلما تكشف الوثائق التي تركها بن لادن مراسلات تشير إلى علاقة القاعدة بإيران، كانت هنالك أيضاً رسائل عن تفاهمات ومساومات بين التنظيم والباكستانيين، لدرجة قامت فيها القاعدة بترتيب عملية إرهابية، غدت كما تقول “جاهزة”، لتفاوض الباكستانيين على أن يتركوا التنظيم وشأنه أو ينفذوها كما فعلوا من قبل، مذكرين إياهم بصدقيتهم في تنفيذ تهديداتهم في أكثر من عملية.
لكن مع ذلك، فإن فرضية خيانة الباكستانيين، تظل أقل احتمالاً من فرضية خيانة الإيرانيين، أو هذا على الأقل ما تؤكده وثائق القاعدة.
وبعد استعراض كل المعطيات السابقة، وفق الوثائق حاملة الأرقام أدناه وغيرها، يمكن اعتبار مقتل بن لادن تمّ بتواطؤ حقيقي بين الأميركيين والإيرانيين، لتقديرهما معاً أن إطلاق سراح عائلة الرجل كفيل بوقوع تحركات واتصالات عديدة، لا بد أن تعطي خيطاً ولو رفيعاً يمكن أن يؤدي إلى كشف موقع المطلوب الأول في العالم يومئذ. وهذا ما حدث بالفعل، فما إن تأكد بن لادن أن مساعيه بتوجيه عائلته إلى بلد ثالث لم تنجح، أسقط في يده، وأصبح يخشى من كل الحلول. وجعل يبحث عن مرافق جديد، ومنزل آخر يسعه بأسرته الجديدة، بعد رفض المتعهدين المحليين بحمايته في المنزل القديم. بعد وصول الفوج الأول من عائلة زعيم القاعدة، ظل ابنه حمزة يضغط عليه لينضم هو الآخر، فجعل يكثف التواصل ويبعث رسله بوتيرة أسرع من الماضي، وهو ما حذره منه مسؤول التنظيم.
كل هذه الأمور كافية للإيقاع بزعيم تنظيم القاعدة، لكن هل كان ذلك بتواطؤ من الإيرانيين مع الأميركيين أم لا؟. ذلك هو الراجح. لكن الإيرانيين والأميركيين معاً يتحاشون تأكيد هذه المعلومة أو نفيها. غير أنه بالنسبة إلى الإيرانيين كما يقول أحد الكتاب العرب، ينظرون إلى كل التنظيمات المسلحة والشخصيات العربية التي يتحالفون معها شيعية كانت أو سنة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وغيرها، باعتبارها أوراقاً تقضي بها حاجتها ثم تلقي بها ولا تبالي. أما أميركا فمنطقها دوما “عدو عدوي صديقي”.
مرجع الوثائق: 10، 15،13، 19، 422-10، 428-10، رسالة حمزة بدون رقم، رسالة خالد بدون رقم، رسالة بن لادن لخيرية بدون رقم.
اندبندنت