“مدرسة” لبنانية خطيرة … “حالهم ميؤوس منها، لكنها غير خطيرة”
في الذكرى الـ 44 لحرب لبنان سؤال يبدو غريباً، لكنه غير مستغرب: هل انتهت الحرب التي بدأت رسمياً يوم 13 أبريل (نيسان) 1975 وتوقفت رسمياً بالتوصل الى “اتفاق الطائف” في خريف عام 1990؟ ولا حدود للأسئلة الواقعية التي تتزاحم بعده: أين لبنان اليوم من لبنان ما قبل الحرب؟ ماذا جرى للقضية الفلسطينية التي باسمها تحكّم قادة منظمة التحرير بلبنان وكانوا من نجوم الحرب قبل ان يغادروا بيروت الى تونس تحت ضغط القوة العسكرية لإسرائيل الغازية والقوة الديبلوماسية الأميركية، وان تخرجهم دمشق بالقوة من طرابلس؟
كيف حال الشرق الأوسط الذي قيل ان حرب لبنان كانت “مدرسة تعليم وتدريب” للعالم العربي على الصراعات الطائفية والمذهبية والإتنية ضمن الصراعات الجيوسياسية والجيو استراتيجية المدارة دولياً؟ وكيف حال القوى والبلدان التي تدخلت في الحرب مباشرة أو بالواسطة؟
في آخر أيام الامبراطورية النمساوية المجرية سئل وزير الخارجية عن حال حكامها آل هابسبورغ، فأجاب “حالهم ميؤوس منها، لكنها غير خطيرة”.
حال خطيرة ولكن
وعلى طريقة هذا التشخيص الديبلوماسي المعبّر، فان تشخيص حال لبنان بعد حوالي ثلاثة عقود على اتفاق الطائف يمكن اختصاره برأيين: واحد يرى أصحابه اننا في حال خطيرة لكنها غير ميؤوس منها، وآخر يتصور اصحابه ان حالنا خطيرة وميؤوس منها، وهناك بالطبع من يعيد التذكير بتاريخ لبنان منذ ايام الأمير فخر الدين والسلطنة العثمانية ثم الإمارة الشهابية المتحالفة مع مصر محمد علي باشا ونظام “القائمقاميتين” الذي اقترحه المستشار النمساوي مترنيخ، والمتصرفية بحماية الدول السبع الكبرى في القرن التاسع عشر، وايام الانتداب الفرنسي ثم الاستقلال في القرن الـ 20 بدعم بريطاني ومصري وصولاً الى لعبة الأمم قبل الحرب وخلالها وبعدها وتحولات القرن الـ 21 ليقول: ان لبنان “دور” مطلوب لأهله وللمنطقة والعالم، وهو مستمر مهما تغيّر وتبدّل اللاعبون، لكنه ممنوع من ان يصبح في صحة جيدة ومن ان يموت .
حرب متعددة الوجوه
ذلك ان حرب لبنان كانت متعددة الوجوه وتحمل كل عوامل الصراعات في لبنان وخارجه، حرب أهلية ذات طابع طائفي لتعديل الأوزان والتوازنات بين الطوائف داخل السلطة، حرب ذات طابع وطني ضد السيطرة الفلسطينية، حرب يمين يسار في صراع بين الحفاظ على النظام وبين تغييره، حرب أهلية عربية بمعنى ما ضمن الصراع بين المحاور العربية ومع العدو الاسرائيلي ثم مع المحور الاقليمي الايراني الصاعد.
حرب مرحلة مهمة في الصراع العربي الإسرائيلي، وحرب مباشرة وبالوكالة بين اميركا والاتحاد السوفياتي في إطار الحرب الباردة. لم يبق أحد لم يتدخل فيها بشكل ما، فهي كانت البديل من حروب المنطقة، والاستقرار الهش اليوم هو نتيجة “الخدمات” التي يقدمها لبنان للمنطقة المضروبة بالحروب والنزاعات، وليس ما نعرفه عن الحرب واسرارها سوى القليل، اذ رأينا ما يدور في الساحات، لا ما يدار في الكواليس، ولا تزال الوثائق المهمة محجوبة.
حرب بين الخصوم
حتى بعد توقف الحرب رسمياً، فان معارك ساخنة حدثت أكثر من مرة، معارك بين قوى داخلية، غزوات اسرائيلية أصغر مدى من الاجتياح الكبير عام 1982، وما استمر وتفاقم هو حرب باردة بين الخصوم وحتى بين الحلفاء، ولم يكن ما انتهى اليه “الربيع العربي” من عنف الأنظمة وعنف المنظمات وتغوّل التيارات الأصولية والتكفيرية مجرد نهاية للحراك الشعبي السلمي.
فهو أحدث خلخلة في النسيج الاجتماعي الوطني في معظم البلدان العربية وأظهر العصبيات الطائفية والمذهبية والاتنية، وكله يؤكد ان الذين في العالم العربي تعلموا وتدربوا في “المدرسة اللبنانية” طوروا المدرسة لتصبح “جامعة”. أليس هذا ما تعكسه اليوم أحوال بلدان تدخلت في حرب لبنان؟ أليس ما يدور في سوريا واليمن وليبيا والعراق هو سيناريوهات اوسع من السيناريو اللبناني وأخطر؟ أليس الفلسطينيون في الضفة وغزة منذ اوسلو منقسمين ومتصارعين على “سلطة بلا سلطة” تحت الاحتلال الاسرائيلي؟
“الممانعة والمقاومة”
أليس المشهد الذي يأخذ أكبر قدر من الأضواء والاهتمام اليوم هو مشهد المحور الايراني المسمى محور “الممانعة والمقاومة” المندفع في مد النفوذ على المسرح العربي، و”ممانعة” المحور العربي الذي تقوده السعودية ومصر لذلك؟ أليس أهم تطور في لبنان هو تنامي قوة “حزب الله” ومشاركته في السلطة وفي حرب سوريا وسواها وإدارة تحالفاته في الداخل، وسط أوسع عقوبات اميركية ضده وضد طهران؟
دولة ضعيفة
والصورة في لبنان اليوم هي: نظام قوي ودولة ضعيفة وفاشلة. أطراف أقوياء في سلطة ضعيفة، وضع اقتصادي ومالي خطير، إذ وصل الدين العام الى 87 مليار دولار تشكل 150 في المئة من الناتج المحلي، وخدمته تقترب من ستة مليارات دولار، اي أقل بقليل من نصف ايرادات الخزينة.
والتقديرات توحي ان الدين العام سيصل عام 2023 الى 127 مليار دولار، وخدمته الى 10,8 مليار دولار، ووضع سياسي مأزوم إذ إن انتخاب رئيس يستغرق أكثر من عامين وتأليف حكومة يأخذ تسعة أشهر، ونجوم الحرب هم أصحاب السلطة.
أعباء حوالي مليوني لاجئ ونازح فلسطيني وسوري من دون باب مفتوح للعودة.
وشعار في البيان الوزاري هو “النأي بالنفس” وسط تدافع في الواقع بين دعوتين الى خيار المحور الايراني أو المحور العربي.
البديل أكثر إيلاماً
نائب رئيس البنك الدولي فريد بلجاح “يحذر من عدم ارتقاء الحكومة الى المستوى المطلوب في الاصلاحات”، والنائب الأول لرئيس البنك الاوروبي لإعادة الاعمار والتنمية يورغن ريجتريك يرى ان الاصلاحات المطلوبة من لبنان وله “قد تكون مؤلمة، لكن البديل منها مؤلم أكثر”.
يقول ارسطو “إن الأمل هو حلم مستيقظ”، ونحن أهل رجاء وأمل في الاعداد للمستقبل، وليس أمامنا سوى واحد من خيارين: إما الانتظار السلبي للمصير بالاتكال على الحظ، وإما تطبيق وصفة أحد علماء الكومبيوتر ألان كاي وهي: “أفضل طريقة لتوقّع المستقبل هي ابتكاره”.
رفيق خوري – انديندنت عربية