مدن سنية تحتمي بالقوات الأميركية في ذكرى احتلال العراق
تتزامن الذكرى السادسة عشرة لاحتلال العراق من قبل القوات الأميركية مع تبدل واضح في المزاج الطائفي إزاء الوجود الأجنبي. فبينما كان المزاج الشيعي مرحّبا بالتدخل العسكري لإسقاط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003 في مواجهة رفض سني، يبدي سنة العراق ترحيبا واضحا بإعادة تعزيز واشنطن نفوذها العسكري في البلاد حاليا، إزاء فتور شيعي.
وبالنسبة للكثيرين، يبدو تبدّل المزاج هذا منطقيا، لأسباب أبرزها تحوّل النموذج الديمقراطي، الذي حاول الأميركيون خلقه في العراق، إلى بوابة لإغراق البلاد في مستنقع الفشل، بسبب الفساد والمحسوبية في إدارة الدولة.
وتمثل نتائج النموذج الديمقراطي، الذي حاول الأميركيون رعايته في العراق، خيبة أمل كبيرة على جميع الأصعدة. فطيلة الأعوام الماضية حافظ العراق على مرتبة متقدمة في تصنيف الدول الفاشلة، فيما حازت بغداد لقب أسوأ عاصمة للعيش خلال أعوام متتالية، وازدادت معدلات الفقر بشكل كارثي، وتفشت البطالة بين الشبان، وتراجع مستوى الخدمات الصحية والتعليمية للسكان، في حين تعصف الأزمات الكارثية بالبلاد، واحدة تلو الأخرى.
وبالرغم من أن صور الخراب عمت مختلف مناطق البلاد، باستثناء الجزء الكردي منها، إلا أن السنة دفعوا ضريبة مضاعفة، ففضلا عن مشاركتهم المكونات الأخرى العيش في ظل دولة فاشلة لا تلتزم بتقديم أبسط مقومات العيش لسكانها، دمرت الحرب على الإرهاب اثنتين من أهم مدنهم، هما الموصل والرمادي، وشرد ما يزيد على الخمسة ملايين شخص منهم في مخيمات النزوح الداخلية ومنافي الهجرة.
وبدا واضحا أن ذكرى الاحتلال السادسة عشرة للعراق، تحمل توجها أميركيا جديدا، يقوم على اجتذاب سنة العراق لنموذج بديل عن الشراكة السياسية مع الشيعة، التي هيمن عليها التوتر الطائفي طيلة الأعوام الماضية.
فبدلا من ذلك، يريد السنة في العراق من الولايات المتحدة أن تكون لسان حالهم في بغداد، بعدما أذاقوا قواتها في مناطقهم الأمرين منذ دخولها في 2003، وهي مفارقة يبررها واقع الحال، الذي يؤكد أن السنة العراقيين لم ينالوا من معارضتهم للاحتلال الأميركي سوى دمار مدنهم وتشريد سكانها بسبب التوترات الطائفية الحادة، التي أنتجت بيئة مثالية لصعود الجماعات المتشددة وهيمنتها في المناطق السنية، ما قاد في النهاية إلى إطلاق حرب دولية لاستئصالها.
ويبدو أن هذا المكون العراقي، تعلم الدرس، إذ شهد مزاجه تحولا جذريا إزاء الوجود العسكري الأميركي في مناطقه.
ولا يخفي الساسة السنة، وحتى السكان في مختلف مناطق هذا المكون، رغبتهم في أن تلعب الولايات المتحدة دور الحارس لمصالحهم.
وبحسب تسريبات خلال الأسابيع الماضية، فإن نية الولايات المتحدة تتجه إلى تحويل جزء من مناطق العراق ذات الغالبية السنية، إلى ما يشبه المحميات، من خلال تعزيز حضور الجيش الأميركي في قواعد عسكرية على أطراف محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار.
ويأمل السنة العراقيون أن يساعدهم هذا الوجود الأميركي في الحصول على أموال كافية من بغداد أو من دول مانحة لإعادة بناء مدنهم، فضلا عن تبديد الهاجس الطائفي بشأن مخاوفهم من الهيمنة الشيعية على مناطقهم.
ويبتهج مدوّنون سنة من الأنبار والموصل، بالصور التي تظهر الأرتال العسكرية الأميركية وهي تتجول في مناطقهم، ويزداد اهتمامهم بها، كلما اقتربت من مناطق نفوذ الحشد الشعبي، الذي ينظر إليه قطاع واسع من هذا المكون بوصفه أداة تهديد إيراني للعيش المشترك في هذا البلد.
ويأمل السكان السنة في العراق في أن يلعب ممثلوهم السياسيون في بغداد دورا بارزا في إجهاض المشروع الذي ترعاه أطراف سياسية عراقية على صلة بإيران، لإخراج القوات الأميركية من العراق عبر تشريع برلماني.
وتناقل ساسة سنة، عبر مواقع مجموعات المحادثة، باهتمام تفاصيل نشرتها “العرب” في تقرير سابق، بشأن تعثر جهود بعض الأطراف الشيعية في حشد التأييد اللازم لتمرير تشريع برلماني يلزم الحكومة العراقية بإخراج القوات الأجنبية من العراق.
ولا يستبعد مراقبون أن يقود التحوّل في المزاج السني إزاء القوات الأميركية إلى إحياء مطلب قديم لبعض ساسة هذا المكون، يتعلق بإنشاء إقليم جديد في العراق، على غرار التجربة الكردية الناجحة.
وقال مراقب سياسي عراقي “إن سنة العراق اضطروا إلى الاعتراف بالقوات الأميركية بعد أن ساهمت في تدمير مدنهم وإفشال تمردهم، وبأنها الضمانة الوحيدة لاستمرارهم في البقاء بمدنهم”.
وأضاف المراقب في تصريح لـ”العرب”، “من خلال وجود تلك القوات يضمن السنّة سلامة ما تبقى من مدنهم ومن سبل العيش في تلك المدن، بعد أن أصبح واضحا أن الحكومة العراقية عاجزة عن دفع الحشد الشعبي بعيدا عن التماس مع المكون السني أو غير راغبة في ذلك. وهو ما دفع إلى وقوع تغير لافت في المزاج الوطني السني”.
وعبّر عراقيون عن تململهم بسبب الهيمنة الإيرانية على القرار السياسي وعلى مفاصل عديدة من الحياة وفي مقدمتها يقف المفصل الاقتصادي الذي ينخره فساد غير مسبوق، لا تمكن مكافحته إلا عن طريق إزالة أسباب الحماية التي تقف وراءها إيران والميليشيات التابعة لها. وهو تحول صار من اليسير تلمس إشاراته من خلال تردد عدد من ممثلي التيارات السياسية الشيعية في مجلس النواب في التصويت لصالح قانون يحضّ على خروج القوات الأجنبية من العراق.
ونجحت الولايات المتحدة في حشد أصوات لصالح بقاء قواتها في العراق تمهيدا لما يمكن أن ينتج عن صراعها السياسي مع إيران من تطورات، يكون للعراق موقع فيها، لا رغبة من الولايات المتحدة بل بسبب إصرار إيران على عدم التخلي عن مكتسباتها التي تحققت عبر أكثر من عقد من الزمن، وبعد أن أنفقت العشرات من المليارات من أجل تكريس وجودها في ذلك البلد الذي احتلته الولايات المتحدة عام 2003 ولم تستطع السيطرة عليه إلا من خلال التعاون الإيراني.
لا تخفي الولايات المتحدة وإيران معا قلقهما من اتجاهات الرأي العام في العراق غير أن كل واحدة منهما قد هيأت نفسها لأسوأ الاحتمالات من غير أن تفكرا بالتخلي عن العراق.
صحيفة العرب