ولادة عصر الإنترنت الفضائي بستة أقمار صناعية لـ “وان ويب”
الأرجح إنها الخطوة الأولى في مشوار الألف ميل، بل إنها قفزة في تاريخ الإنترنت وُضعت على درب التحقّق. منذ بداياتها، رافق شبكة الإنترنت حلم بأن تكون متاحة لكل الناس، بل لكل فرد على الأرض، مهما كان موقعه جغرافيّاً وعلى مدار الساعة، وبحرية تامة. ومنذ انطلاقتها في مطلع التسعينات من القرن العشرين، تقدّمت الإنترنت خطوات نوعيّة في تحقيق ذلك الحلم، لعل أقربها هو وصول الناس إليها من الهواتف النقّالة، وعبر الـ”واي فاي” في المنازل، إضافة إلى الخطوط المتفرعة من كوابل الإنترنت الممتدة كشرنقة عبر الكرة الأرضيّة بأسرها.
ماذا عن الذين لا تصلهم خطوط الإنترنت؟ ماذا عمن لا تغطيهم شبكات الموبايل أو لا تستطيع توصيل الإنترنت إليهم؟ ماذا عن سكان الأرياف والمناطق النائية والصحارى والجزر؟ حتى عندما تصل الإنترنت إلى من يستطيعون الاتصال بها حاضراً، تبقى مشكلة السرعة والقوّة والقدرة على نقل البيانات مشكلة كبيرة. من دون سرعة كبيرة أو سعة ضخمة في نقل البيانات، يصعب وضع الإنترنت بصورة مجدية في تقدّم المجتمعات، مثل استخدامها في إيصال الرعاية الصحية من بُعد (بما فيها العمليات الجراحية)، أو إجراء تجارب علمية متطوّرة ومشتركة بأسلوب المحاكاة الافتراضيّة، أو التعامل مع “إنترنت الأشياء” Internet of Things ومعطى “البيانات الضخمة” Big Data وغيرها. والأرجح أنّ تلك الأسئلة والمعطيات تقف في قلب مبادرة ضخمة في مسار ثورة المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة، تتمثّل في السعي إلى إيصال الإنترنت إلى كل فرد على الأرض، عبر الأقمار الاصطناعيّة. واستطراداً، تأتي الإنترنت للناس كأنها أشعة نور يتفرق بين أجهزتهم ولا يزيده التفرّق إلا قوّة وتغلغلاً في تفاصيل الحياة اليوميّة للبشر.
وابتدأ مشوار تحقيق الحلم بظهور مجموعة “وان ويب” One Web الأميركية (مقرها مدينة ارلنغتون، بولاية فرجينيا) التي أسّسها كريغ وايلر، وتعمل بميزانية لامست حتى الآن عتبة الملياري دولار. وجمعت تلك الشركة ذلك المبلغ من مستثمرين بينهم “إيرباص” و”كوكاكولا” و”فيرجن غروب” و”سوفت بنك” وغيرها. ووضعت “وان ويب” نصب عينيها تحقيق تغطية عالميّة للإنترنت عبر الحزم العريضة (“برود باند” Broad Band) النطاق بحلول العام2021 بواسطة قرابة 650 قمراً صناعيّاً. وساعد في سرعة إنجاز الأقمار الصناعيّة للاتصال بالإنترنت التي تعمل عليها “وان ويب” في السنوات الأخيرة، اعتمادها على تقنية الأقمار الصناعية المُصغّرة التي تحمل تسميّات مثل “ميني ستالايت” Mini Satellite أو كيوب سات” Cube Sat وفق الجهة التي تصنعها، وهي تُصنّع عبر استخدام كثيف لتقنيات النانوتكنولوجي. وعلى عكس الأقمار الصناعية التقليدية الضخمة، تتميّز الـ “ميني ستالايت” بحجم صغير لا يزيد عن 150 كيلوغراماً، فيما يصل “كيوب سات” إلى عُشر ذلك الرقم، بأبعاد تقاس بالسنتيمرات!
الهند هي الساحة المقبلة للفضاء الافتراضي؟
أخيراً، دخل حلم الإنترنت الفضائي إلى مرحلة التحقّق فعليّاً. إذ تعاونت “وان ويب” مع شركة “إيرباص” (وهي شريكتها الأساسيّة)، في وضع ستة أقمار صناعيّة للاتصالات الفضائية من نوع “ميني ستالايت” في مدارات ثابتة حول الكرة الأرضيّة. وفي 28 فبراير (شباط) 2019، حمل صاروخ من نوع “سيوز” يعمل بتقنية روسيّة، الأقمار الستة إلى الفضاء، منطلقاً من قاعدة في جزيرة “غوايانا” الفرنسيّة. وبعد قرابة ساعة ونصف الساعة، وضع الصاروخ أقماره الصناعية في مداراتها. وتولت مراكز في فرجينيا ولندن (التي تضم مجموعة من شركاء “وان ويب”، خصوصاً “فيرجن”)، التواصل مع الأقمار الصناعيّة بعد انطلاقها من الصاروخ. ويتوقع أن تطلق “وان ويب” صاروخاً من نوع “سيوز” كل شهر، يحمل كل منها ما يتراوح بين 26 و32 قمراً صناعيّاً للاتصالات كي توضع في مدارات حول الكرة الأرضيّة. وبعدها، تصبح الأرض محاطة بشبكة من الأقمار الصناعيّة التي تعمل على مدار الساعة، وتصل سكان الأرض بالإنترنت.
ومع تنامي دور الاقتصاد الخاص وشركاته في الفضاء، يتوقع أن يؤدي نجاح “وان ويب” في وضع أقمارها للاتصالات، إلى إطلاق سباق واسع في ذلك المجال.
وبداية، تعتبر أقمار “وان ويب” الستة تحدّياً مباشراً لشركة “هيوز نتورك سيستمز” التي تملك مجموعة من الأقمار الصناعيّة للاتصالات، وهي موضوعة قيد الخدمة منذ سنوات. المفارقة أن شركة “هيوز…” نفسها تستثمر في مجموعة “وان ويب” وتساعدها في بناء بنيتها التحتيّة.
وتعمل شركات مثل “سبايس إكس” (يملكها المستثمر التكنولوجي إيلون ماسك)، و”ليوسات إنتربرايزس” و”تيليسات” الكندية، على صنع عشرات أو مئات من الأقمار الصناعية الصغيرة للاتصالات، ووضعها في مدارات حول الأرض، ما يجعلها منافساً شرساً لـ “وان ويب”. وثمة من يتحدث عن مشاريع مماثلة لدى شركة “سامسونغ” الكوريّة الجنوبيّة أيضاً. وسيزيد النمو في الأقمار الصناعية الطلب على خدمات إطلاق الصواريخ، إذ تعمل مجموعة صغيرة من الشركات على تطوير صواريخ صغيرة الحجم يمكنها نشر مجموعات من الأقمار الصناعيّة تكون أصغر حجماً من تلك التي أطلقتها “وان ويب”، وبتكلفة أقل أيضاً. وفي ذلك المجال، ربما تكون الهند هي الساحة المقبلة للتنافس، نظراً لما تمتلكه من خبرات في صنع صواريخ فضاء صغيرة ورخيصة وكفؤة.
يبقى التحدي الكبير هو… الدول! ومن الواضح أن الاتصال المباشر فردياً مع الإنترنت سيصبح هو الأسلوب المقبل في عمل الشركات التي تقدم خدمات الإنترنت. ولم تعد تلك الشركات في حاجة إلى ما تمتلكه الدول من سيادة وسيطرة على الجغرافيا والاجتماع والسياسة، في عملها، بل صارت تستطيع التعامل مباشرة مع جمهورها، بل فرداً فراداً! كيف تكون ردود أفعال الدول على تلك القفزة التكنولوجيّة في الاتصالات؟ سؤال ربما لا تتأخر الإجابة عنه.
المصدر : اندبندنت