رأي حر

بين المعول والسلاح

عمر سعيد

إلى حملة السلاح
خاصّة في لبنان

إلى اليوم ما زلت أحتفظ بمعول أبي.
كنت أسمعه يقول:
“هذا معول فرنساوي”

قبل أيّام دخلت غرفة العدّة، كان قد بناها أبي لأجل أدواته، التي فضّلت عليه أكثر منّا نحن أبنائه الكسالى.
المنكوش، والمجرفة، والرفش، والقدّوم، والحبل ، والمنجل، ومسنّ الزيت، ومبرد الخشب، وفارة التنعيم، والقفّة، والإزميل، والمسمار، والقارص، والمُخل، ودلو التوتي، والمنشار، والمهدّة، والمذراة، و…

حين خطوت داخلها، استيقظ أبي في الوجدان، ورحت أراه يمسح هذه بكفّه، ويعدل وقوف تلك، ويرتب ذلك فوق الرف، ويتفحّص حدّة المنجل، ويقول:
خدمتني تسعين عامًا ونيف.

زرعت بهذا، وحصدت بهذه، وبنيت الجدران بذاك، وملأت الخوابي بتلك…
جميعها خدمتني وأطعمتني، وأدفأتني، وحمتني من الحرّ والبرد، وحالت بيني وبين مدّ اليد للناس.
بها ربّيتكم، وكسوتكم، وأطعمتكم، وآويتكم، وعلّمتكم.

أفقت على نفسي، والدمع يسيل فوق عصا المعول الذي أتيت لأجله.
وقد خلت الغرفة من أبي.

حملت المعول، واستدرت لأغادر، فلمحت صندوق ذخيرة خشبيًّا أخضر، حمله أبي من أحد المواقع التي غادرها المسلحون، وجعل منه مخزنًا لكلّ صغير ودقيق، قد يختفي بين محتويات الغرفة، التي رَبَتْ عَنّا بتكاثرها.

نظرت إلى الصندوق طويلًا، وأنا أقارن بين حاله هذا، وبين حاله أيام تمدّد بداخله صاروخ الغراد، الذي لم أر له منفعة في الحرب تعدل المنفعة التي قدّمها لأبي في هذه الغرفة.

ثمّ رحت أسأل نفسي:
ترى ماذا قدّم السلاح لحملته؟
أوليس في حديد هذا المعول منفعة، لا تتوفّر في حديد السلاح؟

لقد قتل السلاح وعلى مدار عقود الشجر، وأحرق الحقول، وأحال الأرض بورًا، وانتزع ما للمزارع من أثر في نفوس العاملين فيها.

فغابت الأغاني والعتابا، وجف التعاون، واختفت الألفة، واتسعت المقابر، واسودت ملابس النساء، ووجوه الرجال.

ترى كيف كانت ستبدو الجبال؛ لو أنهم أذابوا حديد السلاح، وأقاموا به أسوارًا لبساتينها، ومرافع لكرومها؟
لو أنهم هاجموا الجرود بالمعاول، وقاتلوا الصخور بالأزاميل والمهدّات؟

كيف كانت ستبدو السهول، لو أنهم زرعوها بالقمح والعنب، بدل الرصاص، والقذائف والشظايا؟

حتّى تلك الأغاني التي كانت لنا (يا بو الزلف، ويا رايحة عالعين، والبنت الشلبية).
مات نصفها، لتحلّ محلّه أغاني الحرب والزعامات والموت والانتصار.

نفضت عن رأسي كلّ تلك الصور، وغادرت الغرفة، أفتّش عن رمّانات أبي، اللائي كنًا ننثرها نجومًا في قعور ألكان الألمينيوم ودست النحاس قبيل العصر.

وعانقت مسكة المعول، أقبّل فوقها بقايا كفّ أبٍ ما مسّت الخِسَّة قط.
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى