مسايرة الدويلة على حساب الدولة… “شي فاشل”

أنطوان سلمون
“ليك وقت بدّك تعطي ملاحظة لجوزف، عطِ ملاحظة لعبد دغري وراها”…
من مسرحية “شي فاشل” للفنان الراحل زياد الرحباني.
إنّ ما سمعه اللبنانيون في ثنايا خطاب الاستقلال دفع الكثير منهم إلى ذكر وتذكّر هذا المشهد والمقطع المعبّر من مسرحية زياد الرحباني “شي فاشل”، التي حاكت وتحاكي فشل الوطن والدولة ومقارباتها على طريقة “أبو ملحم وبوس اللحى وفرفكة اليدين” الممقوتة والمرفوضة منذ ما قبل سقوط هيكل الدولة عام 1975، لمصلحة الأوطان والدويلات البديلة.
فعلى طريقة “ضربة على جوزف وضربة على عبد”، جاءت المقارنة غير الصحيحة ولا الصحية بالقول:
“نحن نمرّ بمرحلة مصيرية شبيهة بمرحلتي الاستقلالين الأول والثاني، وسط زلزال من التطورات وانقلاب موازين القوى من حولنا يشبه ما رافق نشأة لبنان دولةً مستقلة. ونحن اليوم أمام تحدّي تجديد استقلالنا، فيما نعيش انطباعين متناقضين يبتعدان عن الحقيقة ومنافيين لجوهر الاستقلال.
فلنتحدث بصراحة. في لبنان اليوم، لدى بعض المرتابين من تطورات المنطقة، انطباعٌ وكأنّ شيئاً لم يتغير، لا عندنا ولا حولنا ولا في فلسطين ولا في سوريا ولا في العالم.
هي مكابرة أو حالة إنكار ليقنع هذا البعض نفسه بأنه يمكنه الاستمرار بما كان قائماً من تشوّهات في مفهوم الدولة وسيادتها على أرضها، منذ 40 عاماً.
وأنا أقول لكم، إن هذا السلوك مجافٍ للواقع وللإرادة اللبنانية أولاً، قبل مناقضته للظروف الإقليمية والدولية.
وفي المقابل قد يكون هناك انطباعٌ مناقض لدى بعض آخر من اللبنانيين، بأنّ الزلزال الذي حصل قضى على جماعة كاملة في لبنان، وكأنّ طائفة لبنانية برمّتها قد زالت أو اختفت، أو كأنّها لم تعد موجودة في حسابات الوطن والميثاق والدولة.
وأنا أقول لكم، هذه مكابرة أخرى، وحالةُ إنكار مقابلة، لا تقلّ عن الأولى خطأً وخطراً. فيما نحن كدولة، وأنا شخصياً كرئيس لهذه الدولة، نقف حيث تقتضي مصلحة الوطن وكل الشعب، لا مصلحة طرف أو حزب أو طائفة”.
وعلى الرغم من خطأ المعادلة وخطيئة المقاربة، حيث لا تجوز المقارنة، فإنّ ما قيل في إدانة من يرفض حصرية السلاح بيد الدولة جاء بصيغة مؤكّدة ومثبتة، وبلغة حاسمة حازمة توكيدية. في المقابل، ورد تشكيك ذاتي في ما يُوجّه للطرف المطالب بالدولة وسيادتها وحصريتها لحمل السلاح، إذ جاء في خطاب “المساواة بين جوزف وعبد” استعمال عبارة “قد يكون هناك انطباعاً”. و”قد” حرف يُفيد احتمال وقوع الفعل التالي.
في هذه الجملة، “قد يكون هناك انطباعاً” تعني “من المحتمل أن يكون هناك انطباع”، أي احتمالٌ غير مؤكد. استخدام “قد” يعكس أن المتحدث—في حالتنا هذه—ليس لديه تأكيد بأنّ هذا الانطباع موجود فعلاً، بل يقدّمه كاحتمال أو إمكانية.
بعكس ما أكمله الخطيب في خطابه موجّهًا كلامه إلى حزب الإنكار ومدّعي الانتصار بقوله:
“لنقول لمن يرفض الاعتراف بما حصل، إنّ الزمن تغيّر، وإنّ الظروف تبدّلت، وإنّ لبنان تعب من اللادولة، وإنّ اللبنانيين كفَروا بمشاريع الدويلات، وإنّ العالم كاد يتعب منا، ولم نعد قادرين على الحياة في ظل انعدام الدولة.
والمسألة هنا لا تعني فقط حصر السلاح وقرار السلم والحرب—وهذا ضروري جداً وحتمي فعلاً—بل المطلوب أكثر: حصر ولاء اللبناني بوطنه، وحصر انتمائه الدستوري والقانوني إلى دولته، لنعيد بعدها ثقافة الدولة نهجَ حياة وسلوكاً في كل تفصيل من حياتنا وعلى كل شبر من أرضنا. فلم يعد مقبولاً التغوّل على الحق العام، ولا على الملك العام، ولا على المال العام، ولا على الفضاء العام.
لم يعد أيّ من هذا مقبولاً، لا باسم استثناء ولا بذريعة ماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبل، ولا بوهج قوة أو فائضها، ولا بردّ فعلٍ من جماعة أخرى أو منطقة أخرى على واقع غير سليم. كل هذا بات مرفوضاً من كل لبناني، ولأيّ مقيم على أرض لبنان”.
ومع ذلك، عاد انطلاقاً من معادلة “جوزف وعبد” غير المناسبة للحالة الحاضرة ليجتَرِح إمكانية غير ممكنة واحتمالاً غير مؤكّد بقوله:
“لا، ليس صحيحاً ولا مقبولاً أن نتصرّف وكأنّ جماعة لبنانية زالت أو اختفت أو هُزمت. فهؤلاء لبنانيون، هم أهلُنا أبناء الأرض”.
هنا يتذكّر اللبنانيون جميعاً الرسائل التطمينية من القوى السيادية المعارضة للحزب، إلى أبناء الطائفة الشيعية في لبنان والعالم، والخطوات الفعلية التي تجلّت في استقبالهم وإيوائهم ومساندتهم إبّان “الزلزال” الذي تحدّث عنه الخطاب. والطائفة الكريمة، بأحسن الأحوال، ليست مختزلة كلّها بالحزب المكابر الرافض لتسليم السلاح، المتفوّق على بقية الممانعين في العالم في حالة الإنكار المَرَضية. ومن المعيب أن يصبح هؤلاء السياديون المدافعون عن الدولة في مرمى الاتهامات عبر تقويلهم ما لم يقولوه، ومدانون بما لا يفعلون، ومحاسَبون ومحاكَمون بما لا يضمرونه أصلاً.
القاصي والداني يعلم أنّ موقف السياديين المدافعين عن “الدولة” وسلطتها وهيبتها هو هو في موضوع حلّ كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية، منذ توقيع اتفاق الطائف عام 1989، وقبل “الزلزال” الأخير بعقود طويلة، وحتى خطاب عشية الاستقلال في 21 تشرين الثاني 2025، الذي لم يلحظ ولم يأتِ على ذكر موضوع حلّ التنظيمات المسلحة اللبنانية والفلسطينية وضرورة نزع سلاحها، كما ورد في خطاب القسم والبيان الوزاري والقرارات الدولية والحكومية ذات الصلة.
وفي عيد الاستقلال، لا بدّ أن نعود إلى ما قاله بطريرك الاستقلال مار نصرالله بطرس صفير:
“أكبر عيد للبنان هو يوم تسليم الحزب لسلاحه”.




