من الثورة إلى التشتّت: أزمة نواب التغيير ومجموعات الثورة

بقلم: تادي عواد
في الانتخابات البلدية الأخيرة في بيروت، بدا المشهد كما لو أنّ الثورة التي هزّت البلاد في 17 تشرين الأول 2019 لم تكن سوى ومضة عابرة. مجموعات الثورة ونواب التغيير، الذين دخلوا الحياة السياسية بشعارات مناهضة للمنظومة الحاكمة، خرجوا من السباق البلدي وهم منقسمون، متناحرون، وغائبون عن تمثيل الناس. فما الذي حدث؟ وأين يكمن الخلل؟
الخطأ الأول: من الحراك إلى الفوضى
لم تنجح هذه القوى في التحوّل من “حراك شعبي” إلى “مشروع سياسي”. بقيت أسيرة الشعارات، ترفع لواء “كلن يعني كلن” دون تمييز بين المجرم والمقصّر، بين من مارس السلطة فعليًا ومن بقي خارجها لسنوات. هكذا، أسّست لعداء شامل بدلًا من بناء بديل مقنع، وأقصت حتى من كان يمكن أن يكون حليفًا ظرفيًا أو داعمًا مرحليًا.
الخطأ الثاني: الغرور التنظيمي
فشلت المجموعات في بناء جسم تنظيمي موحّد. كل مجموعة أرادت تمثيل الثورة على طريقتها. لا قيادة مركزية، ولا هيكلية واضحة، ولا برامج موحّدة. الثورة تحوّلت إلى “قبائل تغييرية” تتناحر على تسمية اللوائح وتوزيع المقاعد، قبل أن تواجه الخصوم الحقيقيين.
الخطأ الثالث: فقدان الاتصال بالشارع
مع الوقت، بدأ الشارع الذي انتفض ضد المنظومة يشعر بأن “نوابه الجدد” يتصرفون كنخبة منفصلة عن همومه اليومية. لم ينجح هؤلاء في تقديم حلول ملموسة، ولم يثبتوا أنهم بديل فاعل. فتراجع حضورهم لصالح القوى التقليدية التي عادت لتقدّم خدماتها وتستثمر في شبكاتها الزبائنية.
الخطأ الرابع: الخطاب النخبوي والانفصال الاجتماعي
رغم حسن النيّة لدى كثيرين منهم، بدا الخطاب العام نخبويًا، متعاليًا أحيانًا، ويدور في فلك قضايا لا تشكّل أولوية للناس في زمن الانهيار: حديث مفرط عن العدالة الاجتماعية والحوكمة، مقابل صمت عن الكهرباء، المياه، الأمن، والخدمات العامة. هكذا، وجد الناخب نفسه أمام من لا يفهم حاجاته، ولا يعرف تركيبته الطائفية والعائلية، ولا يملك أدوات المواجهة.
بيروت: صندوق اختبار فشل الثورة
في بيروت، حيث يختلط البُعد الطائفي بالطبقي، والخدماتي بالرمزي، خسرت الثورة كل شيء. الماكينات الانتخابية للأحزاب التقليدية عملت بهدوء وثقة، فيما تبادلت المجموعات التغييرية الاتهامات على وسائل التواصل.
والنتيجة؟ انسحاب كامل من اللعبة السياسية المحلية، وتراجع فادح في التأثير الشعبي.
ما العمل الآن؟
إن كانت مجموعات الثورة جادّة في استعادة موقعها، فعليها أولًا أن تعترف بالفشل، ثم أن تعيد التموضع من خلال:
التحوّل إلى أحزاب حقيقية ذات بنى تنظيمية، لا مجرّد مجموعات فايسبوكية.
صياغة مشروع وطني قابل للتطبيق، يحاكي المجتمع اللبناني بواقعيته لا برومانسيته.
نسج تحالفات ذكية، حتى مع من تختلف معهم جزئيًا، لكسر احتكار السلطة من الداخل.
استعادة اللغة البسيطة التي يفهمها الناس: الخبز، الكهرباء، المياه، والكرامة.
فالثورة لا تُقاس بعدد “اللايكات” على مواقع التواصل الاجتماعي، بل بقدرتها على الانتصار في صندوق الاقتراع، وعلى تغيير الواقع عبر مؤسسات الدولة، لا على هوامشها.
الخاتمة:
ما حدث في بيروت يجب أن يكون جرس إنذار. فالثورات لا تموت بفعل القمع فقط، بل أيضًا نتيجة سوء التنظيم، والغرور السياسي، والجهل بمزاج الناس. وعلى من يؤمن بالتغيير الحقيقي أن ينتقل من دائرة الحلم إلى بناء الذات أولًا.