الصراع الهندي-الباكستاني: تفوق تقليدي، ردع نووي، واحتمالات انفجار دائم

بقلم تادي عواد
منذ لحظة ولادتهما عقب انسحاب بريطانيا من شبه القارة الهندية عام 1947، دخلت الهند وباكستان في صراع مفتوح سرعان ما ازداد تعقيدًا وخطورة، متحولًا من نزاع حدودي تقليدي إلى معركة توازن استراتيجي تحكمها رهبة السلاح النووي.
جذور صراع لا يهدأ
لم يكن تقسيم الهند البريطانية مجرد حدث تاريخي، بل كان الشرارة الأولى لصراع مستدام. فقد أُنشئت دولتان مستقلتان على أساس ديني: الهند ذات الغالبية الهندوسية، وباكستان ذات الغالبية المسلمة. غير أن مسألة مصير إقليم كشمير بقيت جرحًا مفتوحًا. فبرغم إعلان حاكمه المهراجا انضمام الإقليم إلى الهند، فإن الغالبية المسلمة لسكانه، وطموحات باكستان لضمّه، فجّرت أولى الحروب بين الجارين.
ومنذ تلك اللحظة، أضحى كشمير قلب النزاع الهندي-الباكستاني، مسرحًا لأربع مواجهات كبرى شكلت ملامح العلاقة العدائية بين البلدين.
حروب محدودة.. وكلفة باهظة
اندلعت الحرب الأولى عام 1947، وأسفرت عن تقسيم فعلي لكشمير بين الهند وباكستان. وفي عام 1965، تجدد النزاع على الإقليم ذاته، لتنتهي الحرب الثانية بحالة من الجمود العسكري دون تحقيق نصر حاسم لأي من الطرفين.
أما الحرب الثالثة عام 1971، فقد اتخذت منحًى مختلفًا؛ إذ تدخلت الهند لدعم انفصال إقليم شرق باكستان، مما أسفر عن قيام دولة بنغلادش، وهزيمة ساحقة للجيش الباكستاني، وترسيخ الهيمنة الهندية إقليميًا.
وفي عام 1999، شهدت منطقة كارجيل مواجهة دامية جاءت في أعقاب التجارب النووية التي أجراها الطرفان. خاض البلدان معارك شرسة فوق جبال كشمير، لكنهما حرصا، بحسابات دقيقة، على تفادي الانزلاق إلى مواجهة نووية مباشرة. وقد شكلت كارجيل أول اختبار عملي لعقيدة “الحرب تحت مظلة الردع النووي”.
ميزان القوى: تفوق تقليدي للهند وردع نووي لباكستان
عسكريًا، تميل كفة التفوق التقليدي بوضوح لصالح الهند، التي يمتد جيشها إلى أكثر من مليون وأربعمئة وخمسين ألف جندي، مقابل نحو ستمئة وأربعة وخمسين ألفًا لدى باكستان. وتنعكس هذه الفجوة أيضًا في الإنفاق الدفاعي، إذ تخصص الهند ميزانية تناهز خمسة وسبعين مليار دولار سنويًا، فيما لا تتجاوز ميزانية الدفاع الباكستانية عشرة مليارات.
في القوة الجوية، تمتلك الهند أكثر من ألفين ومئة طائرة عسكرية، بينها ما يفوق الست مئة مقاتلة حديثة من طراز “رافال” الفرنسية و”سوخوي-30MKI” الروسية. أما باكستان، فتعتمد على أسطول أصغر قوامه نحو ألف وثلاثمئة طائرة، تتقدمها مقاتلات “JF-17” الصينية الباكستانية المشتركة، وعدد محدود من “إف-16” الأميركية.
وتتجلى الفجوة البحرية بشكل أوضح؛ إذ تدير الهند أسطولًا متقدمًا يضم حاملتي طائرات وغواصات نووية هجومية، فيما تقتصر البحرية الباكستانية على مجموعة محدودة من الغواصات التقليدية والفرقاطات.
ورغم هذا التفوق التقليدي، لا تتمتع الهند بتفوق استراتيجي مطلق؛ إذ تعتمد باكستان على ترسانة نووية معتبرة، تقدر بنحو 170 رأسًا نوويًا، مقابل 164 رأسًا للهند، مع أنظمة إطلاق متعددة تشمل الصواريخ الباليستية والطائرات والقاذفات.
استراتيجيات دفاعية متعارضة
تعتمد الهند عقيدة “الحرب السريعة والحاسمة”، مستهدفة تحقيق اختراقات عميقة في زمن قياسي، قبل أن تتاح للعدو فرصة الرد، خاصة عبر استخدام السلاح النووي.
في المقابل، ترتكز باكستان إلى مبدأ “الردع النووي المبكر”، ملوّحة باستخدام السلاح النووي حتى ردًا على هجوم تقليدي واسع، بما يعرف بـ”عقيدة الاستخدام أولاً”. كما تراهن على قواتها الخاصة وقدراتها على شن عمليات غير تقليدية، خاصة في كشمير، لتعويض الفارق في الحجم والعتاد.
وتعزز باكستان موقفها بتحالفات دفاعية استراتيجية مع الصين وتركيا، عبر صفقات تسليح حديثة وبرامج لتطوير أنظمة صاروخية وطائرات مسيرة متقدمة.
مراكز القوة والضعف
تكمن نقاط قوة الهند في حجمها العددي الهائل وقاعدتها الاقتصادية الصلبة، إلى جانب جهودها الحثيثة في تطوير صناعاتها الدفاعية المحلية عبر مؤسسات مثل منظمة البحوث الدفاعية والتطوير (DRDO) وشركة صناعات الطيران الهندية (HAL). إلا أن ضعفها الأبرز يكمن في صعوبات التنسيق اللوجستي عبر رقعة جغرافية شاسعة، وفي تعدد مصادر تسليحها مما يعرقل تكامل الأنظمة المختلفة.
في المقابل، تتمتع القوات الباكستانية بمرونة ميدانية عالية وخبرة طويلة في العمليات الخاصة، لكنها تواجه معوقات بنيوية جراء هشاشة الاقتصاد الوطني واعتمادها المتزايد على الدعم الخارجي لتمويل أنشطتها العسكرية.
آفاق المستقبل: تصعيد مقيد أم سلام مؤجل؟
في ضوء الوقائع الراهنة، يبدو أن احتمالات اندلاع حرب شاملة تبقى ضئيلة، لكنها لا تزال قائمة. السيناريو الأرجح هو استمرار الاشتباكات الموضعية والمحدودة، خاصة في كشمير، مع حرص الطرفين على عدم تجاوز العتبة النووية.
ورغم تفوق الهند التقليدي، فإن مرونة الردع النووي الباكستاني تجعل أي مغامرة عسكرية واسعة مخاطرة قد تجر المنطقة بأسرها إلى أتون كارثة كبرى.
وهكذا، يظل الصراع الهندي-الباكستاني مرآة تعكس واقع عالم معاصر تحكمه معادلات القوة والخوف، أكثر مما تحكمه منطق تسويات السلام الدائم.