لا مستقبل لذاكرة لا تحمل إلا الحقد والألم والموت والكراهية والتحريض.
إنها ذاكرة منحوتة مصنّعة معدّة معلّبة. وكل معلّب قابل للتعفن والفناء.
إن أجمل ما في الذاكرة الإنسانية أنها عفوية، تلتقط ما حصل دون سابق تصميم أو إصرار.
كان أبي يعيب على الناس ما لا ينسون. لذلك كان يغفو عند أول لحظة يلقي فيها رأسه فوق وسادة أو حجر.
كان يعي وهو الأب المهموم بتسعة أطفال، وكثير من الإحباط والفشل والحصار الاجتماعي والضيق المادي، أن للغد ذاكرة جديدة، وينبغي أن تكون أخف ثقلاً ممّا خزّنته ذاكرة الأمس واليوم من إساءة وألم.
لا أذكر أن أبي خبأ في نفسه إساءة لأحد. لذا حين شارف على الموت سألته:
من تريدني أن أتجنب؟!
فكتب لي بعد أن فقد القدرة على الكلام: الحقود.
ووضع نقطة.
لهذا أحببت سمير جعجع.
أحببته لأنه رجل بذاكرة تتسع لأخطاء نفسه، وأخطاء الآخرين. ذاكرة تعرف كيف تختصر الإساءات والسلبيات، وتتخطى، وتصفح وتسامح.
لم يقاتل سمير جعجع في الحرب التي سميت أهلية بذاكرة الحاقد. بل قاتل بذاكرة المتألم على أهله وأرضه وبلده.
وهذا ما جعله لا يفرّ من الحرب، ولا يفرّ من السلم.
وقد يسأل سائل: أفرار من السلم؟!
وأقول: نعم. ولا يفرّ من السلم إلا من أتخم ذاكرته بالحقد والجرائم، فيفرّ بها إلى الحرب ثم الحرب.
لم تكن ذاكرة سمير جعجع تضخّم له ما حصل ليفر من السلم. بل قفزت به ذاكرته إلى المساحة الإنسانية التي يحتاجها كل أسير ظُلم. كان يدرك بعمق روحه وذاكرته أنه لا بد أن يمشي عقداً ونيفاً في الظلم وفي الظلام. ولأنه يدرك أهمية الخلوة مع نفسه وذاكرته مهما طالت، ومهما فرضت عليه، عرف كيف يخرج من سجنه بذاكرة إنسانية أشد اتساعاً، وأرحب صفحاً وتسامحاً. لذا كان خروجه خروجاً إلى النور، إلى الحياة.
وحدهم أصحاب الذاكرة الحاقدة تنزلق بهم ذاكرتهم إلى الهلاك.
وليست نماذجها بعصية على الاكتشاف، بل يدلّل عليها حقدها في فعلها اليومي. فلشدة حقدها راكمت، وتراكم الكثير من أفعال الشر والسلبية، فاستجلبت لنفسها النهايات الحتمية، وبالشكل الذي يليق بحقدها. ولضخامة حجم الكراهية في الذاكرة الحاقدة نجدها تغتال، وتقتل، وتكيل التهم، وتفسد، وتنتقم.
كثيرون من أصحاب تلك الذاكرة الحقودة ما زالوا على قيد الحياة. يحول بينهم وبين سمير جعجع خوفهم من أن يبلغ الرجل قدرة على الانتقام.
أولئك مساكين! هم ليسوا بحاجة لأكثر من الجلوس مع بعض الجند الذين خدموا عند باب زنزانته، أو مع أولئك الذين رافقوه في الوقت المخصّص للتجوال في باحة السجن.
ولو سألوهم عنه؟ لكشف لهم أولئك الجنود مساحة السلام والراحة في ذاكرة هذا الرجل.
أنا أعرف اثنين منهما وبشكل شخصي، وكلما التقيت بأحدهم، يسألني: ع بتشوف الحكيم؟! أيمتى بدك تخدني معك لعنده؟!
هؤلاء أيضا لهم ذاكرة، فهم كانوا شباباً في الحرب التي انتهت بسجن جعجع، فما الذي جعل ذاكرتهم تدفعهم لتمني اللقاء معه بعد كل هذا الوقت؟!
إنها ذاكرة جعجع الإنسانية. تلك التي جعلته يدرك وظيفة الجندي والسجان، وضرورة الانتهاء من الحرب في عوالمه الجوانية، وتسليم السلاح.
يسرد نلسن مانديلا في مذكّراته أنه التقى أثناء فترة رئاسته برجل تنبّه حراسه إلى أنه يتحاشى مناديلا! فوضّح لهم مانديلا أنه أحد سجانيه، وأن رد فعله يأتي خوفاً ممّا فعل به أيام السجن.
لم يقاتل سمير جعجع لنفسه، ولا لمشروعه الشخصي، ولم يسالم ويسلّم سلاحه لينجو بنفسه، أو ليكسب ما يخدم مشروعه الشخصي.
إن أجمل ما في ذاكرة سمير جعجع هو مشروع الدولة، والذاكرة التي تؤمن بالدولة، لا تعرف الحقد ولا الانتقام، ولا الاستقواء على من ظلمها.
وأولى أزمات الدولة تكون مع ذاكرة حقودة تصر على فكفكتها وهدمها.
والتاريخ مليء بالنموذجين وبالشواهد على نجاح ذا وفشل ذاك.
عمر سعيد