ميشال الشمّاعي … ناسك القضيّة / الجزء الثاني
صوفي شماس
القديس شربل في حياته
علاقة عميقة وحميمة تجمعه بالقديس شربل. بدأت بأزمة صحية اعترضت حياته في العام 1994، تجاوزها في المرّة الولى. لتتكرّر معه ثانية بعد سبع سنوات في العام 2001، فدخل في نفق أسود وكما يقول ” نمت جنبًا إلى جنب الموت خمس سنوات وأكثر” حتّى رفع الطبيب يده وقال لوالدته ذات يوم: “فعلت ما علي فعله، لم أعد أستطع القيام بشيء. صلّوا لميشال فقط.”
” لم أعد أقوى على السير، ولا حتّى النّظر بوضوح. طلبت من رفيقي جورج أن يصطحبني إلى محبسة القديس شربل. دخلتها قرابة الساعة 11 ليلًا وخرجت حوالي الساعة الثانية فجرًا متصبّبًا عرقًا،إذ شعرت أنه كان جالسًا معي، أحادثه ويقول لي: أنا معك.عدنا إلى عين الرّمانة، وأذكر يومها كلّ الطريق جورج كان يرنّم بينما كنت أجهش بالبكاء. نهضت في الصباح وارتديت ملابسي لأول مرة منذ زمن طويل، وسط ذهول أهلي وتوجّهت إلى جامعة الروح القدس في الكسليك لأتابع في قسم الدراسات العليا في اللغة العربيّة وآدابها. لأنّني لا أريد أن أموت، أحييت نفسي بمساعدة شفيعي ختيار عنّايا”.
حتى العام 2005 بقي وضعي الصحي على حاله، وكان الأطباء يستغربون بقائي على قيد الحياة بعد معاينة الصور؛ فكان طبيبي يقول لي إن هذه إرادة الحياة فأجيبه مبتسمًا: “لا، إنها إرادته هو.” وأشير بإصبعي إلى السماء. لدي مهمة وعلي إنجازها.”
شارل مالك
بعد تكليفه في الجامعة بإعداد أطروحة الدراسات العليا عن الدكتور شارل مالك، غاص ميشال في فكر هذا العظيم الذي لم يكن يعرفه من قبل، وشعر أن مهمته تكمن في نشر هذا الفكر.
“بدأت أنحت في فكر شارل مالك، حتّى ناقشت أطروحتي بعد سبع سنوات طوال طوال.” ذلك كلّه، إلى جانب متابعة نضاله في عين الرمانة، حيث عمل على تنظيم سلسلة محاضرات في التثقيف السياسي للرفاق برغم المضايقات التي كانوا يتعرضون إليها، وصولاً حتى خروج د. سمير جعجع من المعتقل. كما ساهم في هذه المرحلة أيضًا بتأسيس مصلحة المعلمين في القوات اللبنانية مع د. أنطوان حبشي. انطلاقًا من متابعة نشاطه السياسي من بيت يسوع الملك. كما اجتاز دورة الكادرات الأولى جنبًا إلى جنب رفيقه الدّكتور فادي كرم الذي صار نائب الكورة. كما أسّس فوج البطريرك صفير في كشافة الحرّيّة في منطقته عين الرّمانة وعمل على تنظيمه لأكثر من خمس سنوات أي طيلة فترة عمله في الجمعيّة. وبين عين الرمانة وصيدا الزهراني ومصلحة المعلمين تركز نشاطه السياسي بينما كان يتابع دراسته.
“لا أنسى الفرحة التي علت وجه د. سمير جعجع حين فاتحته بفكرة تأليف كتاب عن شارل مالك، وطلب مني متابعة الموضوع مع رئيس جهاز الإعلام والتواصل شارل جبور الذي طلب مني إيداعه نسخة عن الكتاب ونقل إلي رغبة الحكيم في طبعه وإقامة حفل توقيع. وكان له ذلك في 17 تشرين الثاني من العام 2018، في عرس ” القضيّة اللبنانيّة في فكر الدّكتور شارل مالك” حيث غصّت قاعة مسرح المعهد الأنطوني في بعبدا في يوم التوقيع هذا.
سألني الحكيم في أحد الأيام: “ماذا تريد من القوات؟” فلم أتردد في الإجابة قائلاً: “لا أريد شيئًا من الدنيا كلها ولا من القوات فحسب. لكنّني مستعدّ لأيّ مهمّة قد تكلّفني بها.” وبعد يومين أصدر الحكيم مذكرة بتعييني رئيسًا لدائرة إعلام الأجهزة والانتشار في جهاز الإعلام والتواصل مع رئيس الجهاز شارل جبور. ولا أزال في هذا المركز منذ العام 2018 حتى الآن، إلى جانب رئاسة دائرة الاعلام في مصلحة الأساتذة الجامعيّين. وغيرها من المهام الحزبيّة. وبدأت تتبلور أمامي الصورة الصحيحة التي أريدها والشخص الذي أريد أن أكونه. أخذت هذا المسار وسرت به وحملت هذا الفكر ورحت أبشّر به. تخمّرت المحاضرات التي كنت ألقيها في السرّ في عين الرمانة حين كان عمري 20 عامًا وتطورت كثيرًا. فبدأت أتوسع بكتاباتي وانتقلت من مصلحة المعلمين إلى مصلحة الأساتذة الجامعيين بعد نيلي شهادة الدكتوراه وتابعت دورة مع جامعة الدول العربية تختض بالعلاقات الدولية والدبلوماسية وحلّ النزاعات وتحسين الدولة وركزت جميع أبحاثي في هذا مجال حقوق الانسان وفكر شارل مالك وثقافة بناء السلام في المجتمعات؛ إضافة إلى مزاولة مهنة التعليم.
من كتاب المقدمة سيرة ذاتيّة فلسفيّة لشارل مالك تعرّف ميشال إلى مصطلح “الكيانية”. وقرأ هذا الفصل حوالي 50 مرة. إنه يتحدث فيه مالك فلسفية تنبثق من الفلسفة الوجودية، ومن كينونة الإنسان. عاد ميشال في الفكر والتاريخ إلى كيفية تكوّن لبنان والكيان اللبناني وربط بين فكرة الكيانية الفلسفية ووجود لبنان، وأسقط هذا المصطلح على الفكر السياسي. وكما يقول : “ابتكرت عندها مصطلح “الكيانية اللبنانية”، وكتبت أول مقال عن هذا الموضوع في صحيفة النهار، وفكر في إنه يجب ألا يبقى مقالًا. سيكون هذا لبنان الذي أريد أن يراه في المستقبل، وصمم على أن يؤطر هذا الفكر في كتاب بعنوان “الكيانية اللبنانية”.
“ما أريده من هذا الكتاب هو عرض رؤيتي لوطني لبنان في المستقبل، بعدما عرضت رؤية التّأريخ في كتاب القضية اللبنانية في فكر الدكتور شارل مالك؛ وقوام هذه الرؤية هي في تأطير أسس الكيانية اللبنانية والتي أختصرها بكلمات بسيطة: الكيانية اللبنانية لا تقوم على دولة مارونستان أو شيعيستان أو سنيستان. ذهبت إلى مبدأ الخلق الذي كما شرحته في الكتاب يقوم على قاعدتين: التنوّع والتكامل. فالإنسان بطبيعته ليس كاملاً لذلك عليه أن يتكامل مع الآخر. والطبيعة هي مختبَر حيّ لجمال التنوّع. وهذا هو جمال لبنان. وفكرتي هذه هي نقيض الفكرة التي طرحها الفيلسوف اليهودي صامويل هنتنغتون عام 1996، ليبرر نظريته للوطن اليهودي العنصري الذي نحن نكن العداء له، وليس حزب الله. فأنا أريد أن أعيش مع الآخر، اليوم والبارحة وغدًا وإلى الأبد. وتوجد قواعد سياسية تضبط هذا العيش وتنظمه تبدأ بتطبيق الدستور اللبناني الذي قاعدته اللامركزية ويمكن توسيعها إلى أبعد الحدود.”
“هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ … ” وزرع ميشال في أرض جيّدة. لذلك، سيكون حصاده وفيرًا.