في النار رُمينا ومن النار ذهبًا خرجنا
لم يكن العريس ألكسي غوليان، ابن السابعة والعشرين عامًا يفكر في أن ثلاثة أشهر من عمره قد تقلب حياته رأسًا على عقب.
فهذا الشاب اليافع الممتلئ حيوية وحبًا للحياة لم يتردد لحظة في الانضمام إلى القوات اللبنانية في العام 1981 حين شعر أن واجبه يحتّم عليه الدفاع عن قضيته في وجه غرباء استُقبلوا كضيوف وتحوّلوا إلى محتلين.
كان ألكسي ينتقل بحماس من مركز إلى آخر ومن ثكنة إلى أخرى حين يُطلب منه ذلك دون طرح أي سؤال أو تسجيل أي اعتراض. فكل ما كان يهمه هو خدمة قضيته في صفوف القوات اللبنانية سواء في الإس كا إس أو الصوفيل أو مفوضية بيروت، أو في الشرطة المدنية حيث حطّ رحاله حتى بداية حرب الإلغاء المشؤومة.
تزوج ألكسي في 27 كانون الثاني 1990، وحين كان عائدًا مع عروسه صوفي من شهر العسل بعد بضعة أيام تفاجأ برؤية حواجز الجيش تملأ الطرقات فآثر الذهاب إلى منزل والده في المنصورية.
في 31/1/1990، عند الساعة الرابعة تدهور الوضع الأمني وبدأ هجوم الجيش على مدرسة قمر.
في اليوم التالي، في 2 شباط، قُرع باب المنزل ودخلت فرقة من المكافحة واقتادته مع زوجته إلى ثكنة للمكافحة قرب وزارة الدفاع للتحقيق معهما بتهمة الانتماء إلى القوات اللبنانية وحيازة “أوراق مهمة”، ومن هناك بدأ الكابوس.
في الثكنة اتهموا زوجته بنقل معلومات عن الجيش إلى القوات اللبنانية وتوجهوا إليها بالشتائم ثم نقلوها إلى وزارة الدفاع بعد أن عصبوا عينيها.
“نقلوني في اليوم نفسه إلى وزارة الدفاع ووضعوني أول 3 أيام في غرفة حيث تعرّفت على 4 ضبّاط من القوات اللبنانية كانوا قد اقتادوهم من ثكنة غسطا. وأول جولة من التحقيق بدأت بضربي حتى شعرت أن عظامي تتكسّر. وضعوني على كرسي متحرك وربطوني بحبل. فكانوا يديرون الكرسي ويضربونني على وجهي وظهري ورأسي. وبعد كل دورة كرسي كانوا يطلبون مني أن أشتم سمير جعجع.”
بعد أول جولة من التعذيب نُقل ألكسي إلى غرفة أخرى فاعتقد أن كابوسه انتهى وأنهم قد يطلقون سراحه بعد أن أخبره رفاقه أنه ستتم مبادلتهم بعسكريين محتجزين في جونيه. لكن ذلك لم يحصل، إنما وضعوه في غرفة تضم حوالي مئتي شاب كانوا قد أوقفوهم في الدكوانة ونقلوهم إلى وزارة الدفاع بتهمة الانتماء إلى القوات اللبنانية.
ما افترضه ألكسي أن ما قد يتعرّض له من أذى سيأتي على أيدي الغرباء الطامعين، ولم يفكر يومًا أن جنديًا من بلاده سيقضي على مستقبله ويكون سببًا في إصابته بأمراض لن يشفى منها.
تهمة أخرى تم توجيهها إلى ألكسي بعد بضعة أيام وهي أنه كان يراقب ثكنات الجيش في انطلياس وينقل معلومات عن تحركاتهم إلى القوات اللبنانية.
لم يكن يمكث في الغرفة نفسها أكثر من يوم أو يومين حيث كانوا ينقلونه بعد كل جولة من الضرب والتعذيب إلى غرفة أخرى يقابل فيها أيضًا رفاق من مختلف الأعمار تم توقيفهم بتهمة الانتماء إلى القوات.
بعد أن وجّهت إلى زوجته تهمة تصوير مواقع للجيش وتسليمها إلى القوات اللبنانية، تعرّضت زوجتي لضرب مبرح ووجهت إليها كلمات نابية وشتائم وخضوعها عدة مرات للتحقيق مع أنها لم تكن تنتمي إلى القوات اللبنانية حينها.
صُدمت زوجة ألكسي حين رأته بعد عدة أيام من الطلب والتوسّل إلى الضابط المسؤول لمقابلته، حين رأت عينه وقد خرجت من مكانها والدم ينزف منها، ووجه متورّم ولونه أزرق. وحين سألت الضابط المسؤول كيف يمكن أن يقوم جيش نظامي بأعمال تخجل المليشيات من القيام بها، “هيك الدولة بتعمل بناسها؟” فردّ، “بدك تعذري الشباب، هودي معتّرين مش ضروري يللي عم يصير يطلع لبرّا.”
“أُطلق سراح زوجتي صوفي وطُلب منها التزام المنزل وعدم الخروج منه مهما كان السبب، ووضعوها تحت المراقبة. أما أنا فقد
وضعوني مع 25 شاب في غرفة تتّسع لأربعة أشخاص كحد أقصى ومن دون نافذة، فكدنا نختنق. وحين طرق أحد الرفاق الباب لنتنشّق الهواء تعرّض لضرب مبرح. نمت في تلك الغرفة ثلاث ليال نقلوني بعدها إلى غرفة التقيت فيها برفاق تم توقيفهم من ثكنة عبد الحميد كيروز في الدكوانه بعد أن قامت زوجتي باتصالات عديدة لمحاولة إطلاق سراحي أو حتى على الأقل لتأمين طعام وملابس نظيفة”.
بعد عشرة أيام على وجوده في تلك الغرفة، أحضروا تلفزيون لبنان لتصويرهم والادّعاء بأنهم عناصر سوريين يقاتلون مع القوات اللبنانية.
بقيت صوفي وحيدة في المنزل بعد سفر والدته من دون أن تتمكن من تأمين الماء والطعام لأنه سرت شائعات في الحي أنها تخابر القوات اللبنانية لإعطاء معلومات عن مواقع الجيش في الحيّ لتقصفها القوات اللبنانية، فلم تعد تستطيع شراء الخبز أو أي من حاجياتها أو حتى الوقود من منطقة المنصورية لأنها برأيهم عميلة ويتم قصف المنطقة بسببها.
أما ألكسي فقد أُطلق سراحه بعد ثلاثة أشهر وهو يعاني من آلام في الصدر ومن ارتفاع في ضغط الدم، وتضررت شبكة عينه من جرّاء الرفس بالرناجر والضرب الذي تعرّض له على رأسه. لكن المتاعب لم تنته هنا، فبعد عودته إلى المنزل، بدأ وزوجته يتعرّضان للملاحقات وحتى التوقيف ويتم نقلهما إلى مراكز الجيش في المنطقة التي يعيشان فيها كونها كانت خاضعة لسيطرة عون.
اليوم، لا يزال ألكسي يعيش تداعيات أشهر اعتقاله الثلاثة، ويتمنى لو أنه يستطيع أن يمحي الأشهر الثلاثة هذه من عمره. هذه الأشهر الثلاثة التي حرمته نظره وحرمت زوجته من أن تزيّن حياتهما بطفل جرّاء الضرب على ظهرها الذي تعرّضت في أثناء الاعتقال.
يسامح ألكسي وصوفي لكنهما لا ينسيان. صوفي التي لم تكن في فترة حرب الإلغاء قد انتمت إلى القوات اللبنانية، أصبحت من أشدّ الملتزمين بالقوات، فكريًا وعقائديًا تغزل كالنحلة في المتن لا تتعب ولا تكلّ.
يزيّن ألكسي منزله بصور الحكيم والقوات اللبنانية وعلم القوات لا يفارق شرفته. ألم تحبط الأشهر الثلاثة تلك من معنوياته؟ على العكس، يجب ألكسي بحماس، فعلوا ما فعلوه كي نيأس ونُصاب بالإحباط، لكنهم لا يعلمون أننا “في النار رُمينا ومن النار ذهباً خرجنا.”
صوفي شماس