الكتابة والنّاس / الروائي عمر سعيد
كأيّ كاتب بدأت مسيرتي الكتابية بموضوع إنشاء، قرأه معلّم العربيّة على مسمع الطّلاب في غرفة الصّف.
وكأيّ كاتب ينتظر جبريله، وقفتُ عاريًا وحيدًا أعزل وسط أناس، أراحهم أنّ صاحبهم فاشل مجنون.
فالعقل فيهم أن يخدم ساعداك أمعاءك.
كنت نحيلًا ضعيفًا، أصغي وبشدة لأحاديث من حولي، تلك الّتي كانت تزدحم بأحلام الثّروة، والقصور، والجنس، والقوّة، والامتلاك.
لذا كنتُ، ولازلت غريبًا، لكنّي غريبٌ ما زال يصغي.
لم يكن أبي تربويًا بالمعنى الحديث، وكونه تخرّج من مدرسة الكتاتيب، ومن علّمه كان شيخًا، قَدّ أبي عصاه، من الجنّة، مذ آمن بألّا شيء غير العصا يعلّم.
أمّا أمّي، فقد علّمتها تربيةُ الجدايا؛ مذ كانت تطعمها من كفّها، أن ابنها لم يخلق لأيّ من الأعمال، لذا وعلى الرّغم من كافّة التّهم الّتي أطلقها أبي عليها، وحمّلها بها مسؤوليّة إفساد تربيتي؛ كانت تربويّة عصريّة، لا تعرف كيف تسوّق نظريّتها، لكنّها أدركت وبفطرتها أنّ تربيتها ستؤتي أُكُلَها.
لذا كانت تتقنُ طهو طعامنا على نار الحبّ الهادئة، وقد تبّلته بكلّ ما برشته من روحها الّتي لا زهر يطغى على عطرها أنّى حلّت.
كانت تخبّىء لي كلّ قصاصات الورق الّتي خلفتها ورائي.
فيسخر أبي منها بمقولة ورثها عن بيئته:
” إيه.. رح تاكلي من خراه فجل”
لم تكن تجيبه، كانت تهمس في أذني كما لو أنّها تشكرني:
“يكفي أنّه سكن بطني تسعًا”.
لم هذا النّص؟!
نشر أخي مايك على حسابه شكوى من ميكانيكيي السّيّارات العرب في كندا. وذكر أنّهم يعانون البطر.
كنت في مؤتمر للقيادات الشّابّة في الهند عام ٢٠١١، على رأس وفد من المملكة العربيّة السّعودية.
في إحدى المحاضرات لمعلمة فرنسيّة ذكرت أنّ التّعليم ليس للعمل، والعمل ليس لإنتاج المال، فالتعليم لحلّ مشاكل العالم الآتي، والعمل لمبادلة خدمات الآخرين بخدمة نجيدها، وكلّنا خدم لبعضنا البعض.
كثيرون ممّن سخروا منّي ككاتب في صغري، يلقونني اليوم بمطالبات الكتابة عن مواضيع يرونها مهمّة في الدّين، والمجتمع، و…
لقد عاش الكِتَابُ غريبًا، ولزمن طويل في بيئاتنا. حتّى الجرائد كانت حكرًا على المدينة، حيث الحدائق، والأرصفة، والشّوارع النّظيفة، ومكاتب تشغلها فناجين القهوة ومنافض الدّخان.
تَقدَّمَ الكِتابُ كثيرًا في السّنوات العشر الأخيرة، والفضل يعود لظهور مواقع التّواصل الاجتماعي، الّتي منحت الجميع حقّ القول، والمتابعة، والوصول، والحصول على المعرفة.
نعيش اليوم زمن تَقَدُّمِ الكلمة على كثير من الأساسيّات.
كنّا نقدّم طعام الدّابة على طعام أطفالنا، وتعليمهم. يوم كانت الدّابة اقتصاد الأسرة، ومورد رزقها.
واليوم بتنا نحرص على توفّر النّت، والهاتف أو الكومبيوتر، وغالبًا على حساب الرّغيف. فميزة مواقع التّواصل أنّها وبكلّ ما فيها من محتوى، ومستوى، وأنواع، وعقول، وتوجّهات، تعزّز الحريّة، وتربّي الأطفال بشكل يتناسب مع زمن تغيّر.
دون أن تقيم باعتباراتها أيّ حساب لانتقادات الّذين يرون بعين واحدة.
فكم من أسرة عرفتُها؛ تنفق على بيتها كلّ يوم ثلاثة أنفاس أو أحجار شيشة، يبلغ ثمنها سعر كتابين.
عمر سعيد