كنت في الصّفّ الخامس، يوم ارتقيت طاولة المعلم، لأنشد قصيدة مخائيل نعيمة بيتي:
سقف بيتي حديد
ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح
وانتحبْ يا شجر
واسبحي يا غيوم
واهطلي بالمطر …
كان ذلك في سبعينيّات القرن الماضي.
كانت بيوت قريتي لا تتجاوز خمسين بيتًا، وكانت عين الضّيعة سجّادة الّله في الأرض، نصلّي فوقها جميعًا نحن الصّغار، وأمهاتنا، وأخواتنا، وآباؤنا، وأجدادنا، والعصافير، وقطعان ماعز القرية، ودواب السّقايين، حتّى النّور الّذين كانوا بلا ديانة، صلّوا معنا لأكثرَ من صيف.
كانت الطّبيعة طريق النّاس إلى الحبّ، والغزل، والجنس، والشّعر، والقصص، والطّعام.
كان في قريتي شاعر واحد، يكتب الشّعر الفصيح، وزجّال واحد، يكتب القرّادي.
لكن عجائز القرية كافّة كانوا حكائين، يعرفون كيف يجعلون من ليالينا شاشاتِ قصص، لا تنتهي صيفًا شتاء.
أمّا نساؤها فقد كنّ رسّامات بارعات، يتقنّ الرّسم بكلّ ألوان المساكب، والحواكير، والحقول. ويقدّمن لنا أجمل لوحات البصل الأخضر، والفول، والبقدونس، والفجل، الحبق، والجوري، والعطرة، والذّرة، والثّوم، والفريز، والعدس، والحمّص، والجزر ،والنّعناع، والصّعتر.
عندما دخلت إلى الشّخروب في أول زيارة إلى قبر ميخائيل نعيمة، وبيته، بقيت لساعات صامتًا.
كان مزراب مياه البحيرة، والسّواقي وأوراق الأشجار وكل ما في الشّخروب يتكلّم.
حين عدت إلى الشّخروب قبل سنة. ما عادت الطّريق وعرة، بل اتسعت، وتعبّدت بالإسفلت، والاسمنت، وازدحمت بالسّيارات.
كانت الشّخروب تبعد عن بسكنتا مسافة ساعة ركوبًا على الدّابة، فصارت مرمى حجر للقاصدين بسيّاراتهم.
من وعورة تلك الطّريق تفجّرت قريحة نعيمة، ومن صخور تلك المنطقة طحن فلسفته، ومن رماد حطب صنوبرها صنع حبره، الّذي كتب به كلّ نصوصه.
كنت في طفولتي أخاف من المسافة بين القرية والعين لطولها، ليس أكثر. غير أنّي صرت اليوم أضجر من أسوار البيوت، الّتي خنقت الطّريق إليها، وملأت الحقول والحواكير، الّتي كنت أتقافز فيها ربيعًا صيفًا، حتى الخريف.
لا بل غدت الطّريق من الصّويري إلى بيروت أشقّ ممّا يحتمل المسافر.
غابات بيوت، ولوحات إعلانية، ومحميّات من إسمنت، وحديد، وركام، وأنهار من عربات، ترجّ الأرض رجًا.
عندما أحتاج أن أكتب نصًا، يتعلّق بالطّبيعة، أضطر إلى جرّافة متخيلة، أزيل بها كلّ ما يحجب عنّي طبيعة الأمس، وطفولتنا هناك، فأكتب.
أفعل ذلك لما في مخيّلتي من سعة؛ تركتها لزهور الأمس، وحدائقه النّارية، وسمواته المدهشة.
عندما اقرأ نصوصًا لكتّاب شباب، أجدني أقيم في نصّ مزدحم. يضجّ بأصوات الآلات، وزعيق العربات، وصراخ النّاس الغاضبين، والأطفال العنيدين، وتكاد الطّبيعة تنحسر كليًّا عنه، وإذا أُتي على ذكر الزّهور، فعند بائعها، والعصافير ففي أقفاص، وعلى شرفات.
وبات الحمار في نصوص هؤلاء الشّباب شتيمة كالكلب، وباقي الحيوانات.
فلا رائحة في نصوصهم إلّا للكحول، وإفرازات الجنس، وعرق الأجساد، ورطوبة البيوت، ومياه الصّرف الصّحي، وحرائق مكبّات النّفايات، وعوادم العربات.
ترى بم ستمتلىء نصوص الكتّاب بعد ربع قرن من اليوم؛ عندما تتحوّل كاميرات المراقبة إلى عقود في أعناق السّاحات، والشّوارع، والمواقف؟!
وعندما تكتظ سماواتهم بالأجسام الطّائرة والمسيّرة، تقلّ الجماد والبشر.
وعمّ سيكتبون عندما تصير حقائب أطفالهم المدرسيّة كناية عن شيء رقمي، وتصبح أوطانهم كلّها مدينة واحدة، تتّصل ببعضها البعض؟!
وكيف ستكون أماكن بيع الزّهور، والورود، والتّوابل والبهارات؟!
هل سيظلّ من روائحها أيّ أثر في أنوفهم، أم إنهم سيفقدون كثيرًا من حواس شمّهم وبصرهم وسمعهم؟!
لا أدري، غير أنّ أجمل ما في تلك الأيام أن كاتبًا مثلي؛ سيكون قد غاب، ولن تعنيه نصوص ذلك الوقت، وقد يترك قراء ذلك الزّمن ألف علامة استفهام على نصوصي إن بلغتهم.
عمر سعيد