رأي حر

من بيت الطين إلى عنايا/ بقلم سعد ديب

من بيت الطين إلى عنايا

رواية للكاتب عمر سعيد

رواية أخرى قدمها الاستاذ عمر سعيد الى أبناء هذه الامة، فيها الذات والموضوع، حيث تكون السيرة الذاتية محور وطن وشعب، عانا ويعاني ولا يزال ينتظر العناية الإلهية من عنايا وقديسها ابونا شربل، ليقدم نموذجًا عن كفاح مرير من أجل البقاء مفعم أحيانًا بالبكاء، مستقوٍ أحيانًا بالصمود، وعابقًا بدروس الوعي والتجارب.. وهو صاحب البصيرة النقدية الفذة الجريئة..

كاتبنا العزيز، واحد من الرحالة الذين أمّوا بلاد المشرق منذ مغادرته تجويف “التنور” الى المدينة المزدحمة، رمى خلفه تقاليد باليةً عانى منها الكثير من الاتعاب، وانطلق في بلاد الروح الواسعة، الى العراق، الى “سوق الملح ” في اليمن، الى قبرص، ربما الى استراليا الى تركيا، الخ … رافق فيها نوعيات من البشر المختلفين، المنطوين بين طيات رواية “حجر ألالف” النازحين من جهات بلاد الأمة الأربع، ولكن، ليس عليه ان يوحي لنا ان ابطال رواياته شخصيات خيالية، وهو الذي يحاول ان يتخفى خلفها، فلا يسع المطالع إلّا ان يدرك ان تلك الصراحة لا يتقنها سوى متمرس حقيقي واقعي موضوعي لا يغفل التفاصيل الدقيقة المتسترة بالتورية والانكار… واليوم صراحته فاقت الابداع في نشر الوعي لحقبة مريرة مرّت وتمرّ بها بلادنا…
في مستهل السرد والعرض، يفاجئنا الكاتب بما ذكره عندما حمل السلاح حيث كان قد وضع عينيه على زحلة وسيدتها يريد اقتلاعها من قلب الوطن، وكان المسيحيون في نظره، من كفّار قريش…وهو محقون بمحلول الكراهية والحقد…
ولكنه عندما التقى في كنيسة مريم في بغداد، وسط رنين الاجراس، بكاهن (أبونا) بثوبه الأسود وهدوئه الألق، سأله: كيف أساعدك؟ وأعلن كاتبنا مجيبًا انه يريد ان يعترف، وقال للخوري:
—”إنّي أكرهك.. وعليّ أن أقتلك انت ومن يشبهك”.
قال مجيبًا: أسمعك.
قال له كاتبنا: تعبت من مطاردتكم في داخلي.. وكلما دنوت منكم أجدكم داخلي.
قال: أتريدني أن ابتعد، لتتمكن مما تريد؟
وكتب: فتحشرج صوتي وانا أقول “لم يدنُ منّي أحدٌ كما فعلت انت.” واستقام الكاهن بصدره، ودس ذراعه بين ظهري والباب وطوقني من كتفي. نزلت برأسي على ركبتي واجهشت بالبكاء، فسمعته يهمس:
—”لقد غفرت لنفسك”…
بعد ذلك فلا يسع القارئ أن يدع الرواية دون متابعة القراءة.. لأنه في كل صفحة من الصفحات ، بدءًا من الكنيسة العراقية وصولًا الى عنايا، بل، الى آفاق أرحب… كأنّ الرواية هي الاعترافات العلنية أمام الخوري، او هي اعلان اكتشافاته وتجاربه الانسانية والاجتماعية؟ فلنتعقّب ذلك! ولا يسعنا إلّا تلخيص بعض فصولها الأساسية، خلافًا للمعهود…
****
في الوضع الاولي، براءة الطفولة في الضيعة، وتكدير هدوئها باقتحام المقاومات المسلحة والجبهات الكفاحية ذات الايديولوجيات التعبوية المتلاعبة بالمشاعر القومية، وانخراط القوم معها لتحقيق اهداف تحررية سامية… ولكن لم تخلُ الخطابات والتوجيهات من الكراهية المذهبية والاحقاد الطائفية والدينية! ولم يغفل الكاتب اعتقالات مقاومين حقيقيين من قبل دولة الوصاية، ومداهمات لأبرياء، وكان هو نفسه أحدى ضحاياها، في عزّ الاجتياح الاسرائيلي في الثمانينات… فاعتقل وسجن لاختيار واحدة من تهمتين، عميل اسرائيلي أم بعثي عراقي، وهما الحجتين المميتتان… احلاهما مرّ وأمرّ من المرارة…
انها نقد ونقض لمرحلة تاريخية شديدة القساوة، ومحفظة مجلدات ودروس عن تضليل عميق، وشطط غلّف الآمال السامية، بدونكيشوتية هزلية… حيث رافق طفولة ذاك الجيل التحوّل من البساطة والالفة والسلم الأهلي الى حمل السلاح المذخر بالايديولوجيات المنتشرة المعروفة وبالحقد الأسود، مسلطًا سوطه النقدي على قفا تلك الأفكار الديماغوجية الهدامة… وآنذاك لم يكن أحد يستطيع ان يميّز بين الحق والباطل قبل الدخول في التجربة المميتة التي تحققت ونسفت الاعراف والتقاليد لقرية قابعة في البقاع القريب من فلسطين…
ليست تلك السيرة نقدًا ذاتيًّا أو اعترافًا صريحًا بقدر ما هي توصيف حقيقي ببصيرة حادّة لوقائع عاشها اللبنانيون المقيمون في كل انحاء الوطن، بل انها لسان حال الملايين ممن دخلوا التجارب العنيفة…
لا، بل، كما سبق وفعل في كتابه الموثّق “حكي تنور” راح يعمق نظرته الحادّة المتقنة في نقد القرية وظواهر التخلف فيها تجاه الأنثى وقمعها وتعنيفها، وتعنيف الأولاد أيضًا، بسبب وبغير سبب، حتى القتل والتصفية الجسدية، وهو الذي قدّس أفعالهن وتضحياتهن في سبيل تربية أبنائهن وتنميتهم، بدءًا من “الأم” التي لم يقصّر ولم يغالِ في توصيف أتعابها وأفضالها، بقدر ما حاول ان يضعها في مصاف سامية تناسب حرصها على بيتها، وبيئتها… وبدا لنا نحن القرّاء مثالًا ولسانًا ناطقًا بما يعتمل في نفوسنا تجاه “الأم” الأمَة والأُمّة…! فلم يقصّر صاحبنا بتكريم أمهاتنا وتضحياتهن من أجلنا ومن اجله، يصمْنَ بصمت ولايحرمن أطفالهن، هكذا هنّ جميعهن، ألف رحمة لهنّ!
وبالتالي، كان قد تلقى نصيبه من العنف الاسري ومن التخلف الاجتماعي، حتى ان أخاه الياس كان من الضحايا التي لا يمكن ان نغفر لمن سببها، اذ فرض عليه الزواج قبل البلوغ الكامل تحت الضرب العنيف للزوجين معًا.

وفي محطة من محطاته الابداعية عندما ذكر تلك الوالدة التي لم تكن تقرأ ولا تكتب وعجزت عن حفظ بضع آيات، وكان لها آياتها الخاصة ودعواتها بالتوفيق وعملها المنتج لتأمين متطلبات الابناء… راح يكتب:

نزلت من ركوبها على الجرار الزراعي الى جانب أبي، وخطت مسرعة تنادي عليّ، حتى وقفت أمامي، مسحت وجهي وجبيني المتعرق، بمنديلها الممزّق، ثم راحت تفكّ طرفه الذي عقدته على ما ظلّت عيني تبحث عنه، حتى تدلّى من بين أصابعها سلسال فضي عريض، وهي تقول: (انظر ماذا احضرت لك؟!) ثم فتحت كفَّها ليظهر ان صليبًا علّق إليه. قلت لها وهي تعلّقه إلى عنقي: ولكنه صليب؟!
قالت: سيحفظك لي! فعدْني ألّا تضيعه.
ثم شدتني صوب بطنها، وأكملت: ليتني استطيع إرجاعك الى رحمي.
ويبلغنا الكاتب ان الصليب بقي في عنقه الى ان وصل بغداد، رأته إمرأة عراقية، قالت بلهجتها: (ترى كلشي بيها، هَمّ المسيحية إسلام؟ ثم ارشدته الى كنيسة مريم…

وفتح كاتبنا ملف السلاح وثقافته ولعنته وإجرامه، وتدميره لتقاليد العيش البسيط القروي، عدا عن انتشار القوات النظامية التي عمّمت الرعب والتعديات والتشبيح والتعفيش، وعمّقت الظروف العسكرية والأمنية الشح والعوز والفقر والإذلال والاعتقال والتعديات، ممترسين خلف شعارات طنانة رنانة صارت أيديولوجيات دموية وملفات ملفقة تبرر الاغتصابات والمصادرات. ولم تكن ثقافة القتل والقنص لتسبب للعدو الحقيقي أي خسارة حتى ولا سقوط نقطة دم، كما أسالت من الأهل والجيران الدماء والدموع الغذيرة..! وكل ذلك كان يُغلّف بغلاف الدين أو باجتهادات وسيناريوهات ذوي اللحى الذين يرمون على الله كل سيئاتهم…
حكايات حقيقية لا تخلو من الوجدانيات، وهل تخلو سيرة ذاتية منها؟ حتمًا كلا، وهذا ما قدمّه عندما خطّ تنقلاته ومعاناته وتجاربه وخلاصاتها، فلم يكتفِ بالسرد والعرض، بل بالعزف على أوتار الدروس والحكم وعلى الذكريات الأليمة لشعوب الشرق ومشاعرهم، دون ذلك ما كان كاتبنا ليستطيع أن يقدم لنا أبداعاته وحصيلة استنتاجاته، بتلك الدقة والصياغة والشاعرية، فبدا لنا حقًا، واحدًا من ذواتنا جميعًا…
وهكذا واحدنا، وهكذا هو، يهرب من مصيبة ليقع بأخرى، ينجو من تحقيق فيتعرض لتحقيقات، وهو الساعي لتحقيق البقاء وسط تلك المعامع العرمرميات… هذا هو العربي المطوّق، فإلى أين المصير؟
وهكذا واحدنا، تغرس في وعيه ثقافة الجهل والطائفية، فتصدمه الوقائع القاسية المخالفة كليًا لخطباء المعابد، فيكتشف جواهر الانسان الطيب العفيف الكامن في الايمان والصدق والمحبّة…
لقد استدرجت دموعنا يا صاحبي على انفسنا، فيما كنت تطلق الحكَمَ وتوثّق الدروس ، في وجه الأحكام والحكومات الجائرة، وتهتف بالمرافعات دفاعًا عن المظلومين، واسقاطًا للظلامية والجهل…
ها هو يمضي بعيدًا عن القرية، محطته صديقه حارث في جبيل؛ لاقى كل التكريم والضيافة، هكذا اللبنانيون، على عكس ما يصوره المشايخ، وزودته ام حارث عرائس الطعام وسبحة يتدلى منها الصليب، رافقته في سفرته، وكان قد ركع وصلى كما تعلّم من صلوات ككل المسلمين، في حضرة القديس شربل في عنايا وبمباركة من الكاهن الذي استحسن صلاته مخاطبًا: تقبّل الله… وآنذاك يستذكر عتمة الزنزانة، خلال فترة اعتقاله، وكم خاطب القديسين من كل الأديان من اجل النجاة من المعتقل…
ويبحر بعيدًا عن ارض الوطن… الى قبرص، بما جمعه والده من تكاليف مالية قليلة، وهنا يحّلق أديبنا الى قمّة جديدة في ترقّيه، عندما ذكر كيف انشغل بتوفير الإقامة، حيث صادف بائعة هوى زودته بالمبلغ المطلوب لإبرازه في دائرة الهجرة رغم خوفه وشكوكه… على ان تسترده متى حصل على الاقامة… وها هو يكتب: (عندما اعدت المال أخبرتها اني كنت خائفًا من صنيعها، خفت لأن المكان من حولي كان مليئًا بالمخيفين… أخذتني الى كنيسة، وقدمتني الى الأبونا، الذي سمح لي بالمبيت في احدى ملحقاتها، بقيت في الكنيسة أنام وآكل، وأشارك بما يسمح لي العمل فيه مدة ستة أشهر).
ويختم: (كانت بائعة هوى تلك التي قادتني الى الله).. واختار أجمل تعبير (بائعة هوى) أي الحب.
وقبل ان يختم يعلن للملأ ان التسامح والمحبة هما الطريق الموصلة الى عنّايا والى الله…

في النهاية، أثنّي على تعليق الأب بولس حداد، من اقامته في كندا، بعد قراءة “الرواية السيرة” حيث لا يمكن تركها ما لم نصل الى نهايتها، وهو القائل( ضحكت ونادرًا ما تضحكنا الروايات، وبكيت أكثر لأن المظلومين في الأرض متشابهون. ضحكت رغم الشوك الذي حضن حنجرتي طيلة رحلتي معك في روايتك)…
نعم ابكيتنا يا صديقي، ربما لأنك عزفت على أوتار تجاربنا، او على اوتار عواطفنا ومشاعرنا نحو الأم والأرض الأم… أو بسبب استمرار وتعمق المصائب الناتجة عن الانقسامات الطائفية والمذهبية ونتائجها الاجتماعية والإقتصادية المدمرّة…

ولا بد من توجيه تحية حارّة لهكذا كاتب على جرأته واستنتاجاته الانسانية العظيمة، وأتمنى لهذه الوثيقة انتشارًا واسعًا وسط هذا الجيل الراهن علّه يكتسب معارف غافلة عنه، والتي لم تعد مجهولة لجيلنا وللذاكرة المشرقية… خاصة ما يتعلّق ب(اعرف عدوّك).
سعد ديب

Show More

Related Articles

Back to top button