الحريري المأزوم ذهب بعيداً وضيّع بين الحليف والعدو!
كتب جورج حايك: يثير رئيس تيار “المستقبل” استغراب الكثير من المتابعين لمواقفه وحركة مستشاريه وبعض المسؤولين المقربين منه في التيار، إذ ضيّعوا بوصلة المواجهة على نحو مريب وباتوا يقدّمون “الهدايا” المجانية لعدو مشروع “العبور إلى الدولة” الأول ألا وهو “حزب الله”.
لا يبدو ان الحريري والمقربين منه يحافظون على تركيزهم، ورغم سوء قرار الانسحاب من الحياة السياسية وعدم خوض الانتخابات النيابية، استسلموا إلى نهج قاتل “يخوّن” كل من صمم على مواجهة “الحزب”، وهذا مريب جداً واللهم أن يكون نتيجة سذاجة سياسية وكيدية صبيانية وليس مخططاً توجيهياً من الحريري نتيجة مصالحه ومصالح بعض الدول التي يتعامل معها.
والأدهى ان الحريري خسر كل حلفائه الدوليين والاقليميين والمحليين، ويعجز عن وضع حد للإنحدار الشخصي والسياسي حتى بعد انسحابه. وسلسلة الخسائر هي على الشكل الآتي:
أولاً خسر ثروته الشخصية التي كانت بلغت نحو 4.1 مليارات دولار عام 2006 وقد انخفضت عام 2009 الى 1.4 مليار دولار، أي إنه خسر نحو 2.7 مليار دولار في ثلاث سنوات بسبب جملة واسعة من العوامل الذاتية والموضوعية، ومجلة فوربس قدّرت ثروة الحريري منذ 3 أعوام بـ1,4 مليار دولار، لكنّه خسر الكثير خلال السنوات الماضية. وقال عام 2020 “لم يعد لديّ ولا أي مليار، بل أقل بكثير”.
ثانياً خسر علاقته بالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ليحل محلها مشهد اخر مختلف لا سيما بعدما رفض الحريري ان يتجاوب مع خطوة اعدت لها باريس لازالة الموانع الحائلة دون استيلاد حكومة جديدة في بيروت ومن ثم انطلاق قطار المبادرة الفرنسية المعطل.
ثالثاً، خسر العلاقة مع السعودية نتيجة عدم رضى الأخيرة على مسار الأمور، حيث شكّلتتنازلات الحريري لـ”حزب الله” والنظام السوري وخلفهما ايران كبوة في علاقته مع السعودية ولا سيما التسويات وربط الاشتباك مع “الحزب” والتعاون معه، مما أطلق يده في لبنان وهيمن على القرار الرسمي اللبناني.
رابعاً، خسر الشخصيات المقربة إلى والده مثل نهاد المشنوق وفؤاد السنيورة وبهيج طبارة وباسم السبع وفريد مكاري ومصطفى علوش، ولعل أبرز الذين يناقضون خيارات الحريري بترك الساحة السياسية ودفع الطائفة السنيّة إلى مقاطعة الانتخابات هو الرئيس السنيورة الذي اضطر في لحظة سياسية حرجة للتصرف كفدائي بهدف منع وقوع الدولة بالمطلق في فم إيران وذراعها “حزب الله”، وبالتالي الحد ما استطاع إليه سبيلاً من التداعي الخطير في الطائفة السنية المختلة الوزن والتوازن النفسي والسياسي.
ويبدو أن السنيورة أدرك أن طريقة خروج الحريري وإلقائه الحرم السياسي على كل من يترشح باسمه او اسم تياره، إنما ستكون نتيجته الوخيمة تمكين الطارئين والمغامرين من تمثيل الطائفة السنية المهيضة الجناح. صحيح ان السنيورة حفظ ماء الوهج للحريري بعدم ترشّحه شخصيا ًإلا أنه أعلن خوض غمار المعركة الانتخابية بواسطة مرشحين يسيرون في خطه وبدأ التنسيق مع الحليفين السياديين “الحزب التقدمي الاشتراكي” و”القوات اللبنانية”.
خامساً، خسر الحريري رهانه على مقاطعة كاملة من الطائفة السنية للانتخابات النيابية، علماً أن أول المباركين للمشاركة هو دار الفتوى أي المرجعية الدينية الأعلى للسُنّة، إضافة إلى فؤاد المخزومي واللواء أشرف ريفي وبهاء الحريري شقيق سعد وشخصيات أخرى مستقلة. والأسوأ هو انشقاق عائلة الحريري بين سعد وبهاء، إذ يطل الأخير بتفكير وروئ سياسية مختلفة وأكثر وضوحاً وحزماً من شقيقه وخصوصاً في ما يتعلق بالمواجهة مع “حزب الله”.
سادساً، خسر الحريري حلفاءه سواء “الحزب التقدمي الاشتراكي” أو “القوات اللبنانية”، فعلاقة الحريري ووليد جنبلاط توترت منذ التسوية التي عقدها الحريري مع رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل وعدم أخذ الأول بنصائح جنبلاط، ثم شهدت طلعات ونزلات، ورغم تفهم جنبلاط لانسحاب الحريري من الحياة السياسية إلا أنه اعتبر خطوته غير صائبة وتطلق يد “حزب الله” والايرانيين، مبدياً حزنه.
أما علاقة “المستقبل” مع “القوات اللبنانية” فهي الأكثر غرابة، وطريقة تعاطي الحريري مع حليفه السابق سمير جعجع غير مفهومة بتاتاً، ورغم كل ملاحظات الأخيرة على تنازلات الأول وسيره في نهج فاسد لم يهاجمه مرة بل حرص مسؤولو “القوات ونوابها ووزراؤها على “تحييد” الحريري، فيما ينصرف الاعلاميون المقربون منه أي الزملاء عبد السلام موسى ومحمد نمر وجورج بكاسيني وأحمد الحريري وغيرهم إلى مهاجمة “القوات” كل ما تتيح لهم الفرصة، وحتماً هذا لا يحصل من دون تنسيق مع الحريري نفسه، حتى أن رئيس تيار “المستقبل” يكاد ينسى أن “حزب الله” قتل والده ولم يعد مستبعداً أن يحمّل “القوات” هدر دم الشهيد الذي أدى اغتياله إلى نشأة تحالف قوى 14 آذار.
لا بد من الاعتراف بأن ثمة اختلافاً في الرؤية السياسية بين “القوات” و”المستقبل” وهذا ما اقرت به قيادتا الحليفين السابقين، لكن لا أحد ينكر منهما أنهما يتوحدان في النظرة الاستراتيجية للبنان. أما تصرفات “المستقبليين” فتبدو متطرفة مع “القوات” في ظل الصراع الكبير مع محور المقاومة والممانعة الذي تقوده ايران، بحيث ينشغل هؤلاء بمهاجمة “القوات”، وباتوا يعتبرون كل موقف سياسي لها لا يتلاءم مع موقف “المستقبل” السياسي يعني أنه هجوم على الحريري!
ما يسعى إليه المستقبل هو تطويق ومحاصرة “القوات”، أولاً من خلال شن حملة تخوين على كل من يحاول التواصل معها، وثانياً من خلال تسعير الخلاف حولها في طرابلس، لمنع تشكيل لائحة مشتركة، كما كان الحال بالنسبة إلى تسعير الوضع البيروتي تحت عنوان رفض بيروت لأن يترشح فيها أي شخص من خارجها. وهذا من ضيق الأفق وصغر التفكير وقلة الحيلة، ما يؤدي إلى تصغير دور السنة أكثر وتقزيمه.
وتستمر المحاولات المستقبلية لتطويق “القوات” في صيدا مثلاً. إذ تعتبر القوات أنها قادرة على توفير حاصل انتخابي في دائرة صيدا جزين بحال تمكنت من التحالف مع شخصية صيداوية، وهذا ما تتم محاربته، والأمر نفسه في البقاع الغربي أو زحلة.
أعلنت “القوات” مراراً وتكراراً أنها لا تريد تمثيل السنّة بل تحترم قياداتهم التي لا يمكن الغاؤها، وكل ما تطمح اليه هو مشاركة السنّة في الانتخابات والتصويت لشخصيات سيادية من غير الضروري أن تكون متحالفة مع “القوات، فالمعركة وطنية وليست طائفية ومذهبية كما يصوّرها “المستقبل”، محاولاً دفع الطائفة السنيّة إلى المقاطعة أو حتى يبدي لامبالاة إذا أعطت اصواتها لـ”حزب الله” واضعة خطأ أحمر على “القوات” فحسب، وهنا المصيبة الكبرى!
تحمّلت “القوات” تقلبات الحريري وتنازلاته أكثر من عقدين، والشعرة التي قصمت ظهر البعير كان تخليه عن ترشيح سمير جعجع، واستبداله بترشيح سليمان فرنجية أي مرشّح محور المقاومة والممانعة من دون العودة إلى حليفه، وكانت القوات قد استكملت المصالحة مع رئيس “التيار الوطني الحر” ميشال عون الأكثر تمثيلاً للمسيحيين من فرنجية، وارتأت أن ترشحه كحلّ ينهي الفراغ القاتل، وحاولت ان تقنع الحريري بذلك، وهذا ما حصل، لكن “القوات” لم تقل للحريري أن يعقد مع جبران باسيل الصفقات سياسياً وانتخابياً ويتقاسم الحصص والتعيينات في إدارات الدولة مما أوصل البلد إلى انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، ولم تقل له أن يتقارب مع الثنائي الشيعي وأن يهادن “حزب الله” أمام المحكمة الدولية في لاهاي رغم ثبوت ضلوع “الحزب” في جريمة 14 شباط 2005!
ينتقد الحريري “القوات” لتبنيهم قانون الانتخابات النسبي الذي يشبه إلى حد ما قانون اللقاء الاورثوذكسي ويضمن للمسيحيين انتخاب 55 نائباً بأصواتهم، فيما كان الحريري في ظل القانون الأكثري يحصد مقاعد بيروت والبقاع الغربي وطرابلس وعكار وصيدا والإتيان بأكبر كتلة نيابية كما حصل عامي 2005 و2009 ويوزع الفتات على حليفه المسيحي أي “القوات”، بل أكثر من ذلك، غالباً في تأليف الحكومات ما كان الحريري يضع قيادة “القوات” أمام حلين اما تقبلون بمقاعد وزارية هامشية أو تبقون خارجاً، وهناك وقائع تثبت ذلك!
من جهة أخرى يوجّه الحريري سهامه إلى “القوات اللبنانية” بسبب عدم تكليفه برئاسة الحكومة، وذلك احتراماً من “القوات” لرفض الأكثرية الشعبية بعد انتفاضة 17 تشرين الأول لمن كانوا في السلطة جميعهم قبل ذلك التاريخ، وثانياً من رؤيتها الإنقاذية للبلد بتشكيل حكومة مستقلة تماما عن القوى السياسية كلّها من دون استثناء انطلاقاً من الفشل الذي كان حاصلاً، كما انّها رأت بأن طبيعة المرحلة الاستثنائية تستدعي تشكيل حكومة مختلفة كلياً عما سبقها، بدءا من رئيسها إلى أعضائها وبرنامج عملها. وبالمناسبة إن تمسك الثنائي الشيعي لمدة أشهر بتكليف الرئيس الحريري حصراً كان يستدعي من الحريري ان يسأل نفسه عن خلفية هذا التمسك! وكان الحري بالحريري ان يركِّز على الطرف الذي عطّل المبادرة الفرنسية ويحول دون قيام الدولة منذ العام 2005 إلى اليوم، كما كان حرياً به ان يضع نصب عينيه أولوية تشكيل حكومة إنقاذ تفرمل الانهيار، بدلا من القاء التهم جزافاً على “القوات”.
أمام كل ما تقدّم، يبدو بديهياً أن خسائر الحريري لا تعد ولا تحصى، وبالتالي لا أحد يقتنع بأن هذه الخسائر سببها الآخرون من حلفاء وخصوم، انما اداء الحريري كان فاشلاً ومتخبطاً وضعيفاً، مما جعله يتعرّض إلى هذا الكمّ من الخسائر. هو يقول أنه اختار التسويات والتنازلات لتجنيب لبنان حروباً أهلية، لكن هذا الكلام لا يفهم منه إلا المزيد من الهروب إلى الأمام، إذ لا يوجد في لبنان طرف، وحتى “حزب الله”، يستطيع أن يتخذ قراراً بالحرب، فالمواجهة السياسية الحازمة، اسوأ ما يمكن أن تؤدي اليه كان الفراغ، وليس بالضرورة الحرب لأن للأخيرة شروطها وتمويلها الدولي وهذا ما لم يكن متوفراً للقوى السياسية في لبنان! والنتائج التي وصل اليها الحريري كانت بسبب الخوف وافتقاره إلى شجاعة المواجهة، وهذا ما لا يمكن خلقه بأي زعيم أو مسؤول سياسي!
كان المطلوب من الحريري عدم الإنسحاب من السياسة بل تصحيح مساره السياسي والعودة الى مسلك والده الشهيد رفيق الحريري، فيَصْرِف اولاً كل هؤلاء المستشارين الفاسدين الذين اساؤوا الى سمعته ثم يعين نخبة الشرفاء العلماء حوله من كل الطوائف.
كان المطلوب أن لا يهرب من السياسة، بل أن يتخلى عن سياسة فساد ميشال عون و”حزب الله” ويحمل سياسة جديدة بصدره، سياسة تحرير لبنان من الاحتلال الإيراني، وينزل الى معركة التحرير بمساندة قوى التغيير بكل قواه المادية والمعنوية والسياسية، وهناك فراغ كبير تركه انسحابه المُعيب من السياسة، لهذا كان المطلوب ان ينصبّ كل جهده السياسي على ازالة واسقاط الطغمة والعصابة الفاسدة الحاكمة التي يرأسها ميشال عون.
وكان المطلوب أن تكون الانتخابات هي التحدي الكبير لتعاونه مع كل الثوار، هكذا يكون الوفاء لرفيق الحريري، لا ان يترك أحمد الحريري يتنطّح ليقول للقوات اللبنانية:”لنا لبناننا ولكم لبنانكم”، فهو بهذا كان يخدم “حزب الله” وعون! وهذا كفر وعربدة حريرية يجب ان ينظفها سعد الحريري ذاته عن طريق اعلان تضامنه مع المعارضين والثوار، الذين هم لبنان الحقيقي.
فضّل الحريري عدم مواجهة خصومه السياسيين وذهب بعيداً في التحالف معهم وعقد التسويات المذلة والتي كانت كاملها لصالح الخصم، وبالتالي فريق “حزب الله” وحلفائه استفادوا من وجود الحريري وحملوه مسؤولية كل ملفات الفساد وملفات التعثر الاقتصادي، وفي الوقت نفسه كان الحريري عاجزاً عن مواجهة هذا الفريق، وكان الحلقة الأضعف في هذه المنظومة السياسية.
انسحاب الحريري وبعض مسؤولي “المستقبل” من الحياة السياسية يقدّم خدمة لا تقدّر بثمن لـ”حزب الله”، لأنه يتصرف وفق مبدأ “ما دامت الدنيا تمطر اوساخاً فلنغرق في مستنقع الأوساخ”، بمعنى آخر يعتبر الحريري أن لا معطيات دولية واقليمية ومحلية بنجاح أي محاولة لمواجهة مشروع “حزب الله” وخياره هو الاستسلام لمشروعه أو الاعتكاف، حتى تتغير هذه المعطيات، ولا يجد بأن الانتخابات فرصة للتغيير، فيما المجتمع الدولي يدعو كل القوى السياسية والشعب اللبناني للانخراط في الانتخابات، فكيف تريد أن تربح جائزة اليانصيب من دون أن تشتري ورقة؟ هذا العقم السياسي الذي يعمل بموجبه تيار “المستقبل” ورئيسه يسيء إلى مبدأ مقاومة الاحتلال الايراني، إذ لا يكتفي بالجلوس جانباً إنما يحاول تكبيل يديّ كل الشرفاء السنّة الذين يريدون المشاركة في الانتخابات وتخوينهم وهذا ما حصل مع النائب السابق مصطفى علوش، إذ تعرض لانتقادات وتهجمات أنصار الحريري على نحو مشبوه، فأين الوعي السياسي والحس بالمسؤولية؟