“حجر الألف” بقراءة د. غازي زهرالدين
قراءة في كتاب “حجر الألف” للروائي عمر سعيد
كفرح طفل بلعبته الجديدة، كانت فرحتي بهدية الأستاذ عمر سعيد الثانية كتاب(حجر الألف)، ولأنني أعشق رائحة الحبر، وملمس الورق، سارعت إلى تحويل النسخة الألكترونية إلى نسخة ورقية، وبدأت رحلة جني رحيق نصوصها بشغف.
وقبل الإبحار في كتاب (حجر الألف)، لا بد من التعرف على القبطان، يقول الكاتب الفرنسي جورج بوفون:” إن الأسلوب هو الرجل”، وهذا ينطبق على كاتبنا الروائي عمر سعيد، الذي تسطع شخصيته بمجرد قراءة مؤلفاته ونصوصه، فهو شفاف كالزلال، ساطع كالشمس، هو رجل من جبلة نادرة، معجونة بقًرِ، وقيظ، وطيب، وخصب سهل البقاع، هو رجل لا يجترح المعجزات، ولا يدعى الكمال فيما يكتب، يعرف قدر نفسه وحدودها، رجل يحاول جاهداً أن يفتح في الجدران الحابسة على بعض العادات والتقاليد، والعصبيات، والعصمات، نوافذ على الحرية، على الترقي والوعي والتقدم، هو رجل وطني بإمتياز، يعشق وطنه حتى الثمالة.
وبالعودة إلى كتاب “حجر الألف”، يقال: بالقارىء تكتمل صورة الكتابة، وتبلغ منتهاها، فالقارىء هو الذي يوجه إليه الخطاب، وهو المقصود بالكتابة، وهو الذي يعطي رأيه بعد القراءة، فتتشكل لديه صورة باهتة، أو مشرقة، أو واضحة، أو مبهمة حول ما يقرأ، دون أن يكتب حرفاً واحداً، وهو الذواقة الذي سيعطى رأيه بالطاهي والمطهيات. فماذا عساني أقول في هذا الكتاب الذي ضم بين دفتيه عشرات القصص، والروايات، والمشاهدات، والشهادات، التي قدمها لنا الروائي، بأسلوبه السهل البسيط، القريب إلى الإفهام، والذي إعتمد فيه تارة الإشارة والإيجاز، وطوراً التوضيح والإسهاب، وأحياناً التلميح أو التصريح.
وببراعة من يمتلك مقاليد الكلام والكتابة، ويستسهل تطويع الأقلام ونثر حبرها في كلمات تحرك أوتار القلوب، وتقطع الأنفاس من شدة التأثير والتأثر، ينقلك هذا السعيد بنصوصه المتنوعة الماتعة، من خلف الكتاب، إلى عين الأماكن التي تمت فيها الأحداث، وكأنك كنت تشاهدها وتواكبها بأم العين.
ففي الصفحة 12، حدثنا عن الأمية الحديثة، وعن مسبباتها، وأخطارها، ففي ظل سيادتها، يمكنك أن تقنع الكثيرين بوجود فصيلة من البقر تتكاثر بالبيوض، وفصيلة من الذباب تتكاثر بالولادة.
وفي الصفحة 18، لم يخجل المؤلف من وصف فقره المدقع الذي نهشه وعرًاه، ودفعه إلى إستعارة الملابس من صديقه. وفي الصفحة 19، وفي عجقه فقره الموروث، شبه الكتابة الممتعة بملامح أبيه، ولكن فاتك يا صديقي أن الإبداع غالباً ما يولد في بيوت الفقراء.
وفي الصفحات 32-35، وصف لنا الريف الذي ينصٍب نفسه إلهاً على سكانه، وشرح لنا كيف ضبطته شرطة الآداب المحلية يمارس العادة السرية، التي تسببت له بجراح وآلام، لم يضمدها إلاً منديل أمه، الذي رافقه في غربته.
وفي الصفحة 41، تكلم عن العصمات: عصمة المعلم، عصمة الكتاب، عصمة النص،عصمة العشيرة، عصمة جده، عصمة المناهج، عصمة جاره المسن، تلك العصمات التي لا تسقط وترتقي لمستوى القداسة
وفي الصفحة 51، قدم لنا صورة عن النظام الأبوي في المجتمعات، فوصفها بالقضبان التي صنعها الآباء، وإنتظر الأبناء الوقت حتى غدوا أباءً ليقوموا بتغليظها، ولكنه كان واثقاً أن النظام الإبنوي المنفتح، سينتصر في النهاية على النظام الأبوي المدمر.
وفي الصفحة 57، وصف لنا جمال صبية الخيشة التي إشترطت عليه إذا أراد الزواج منها، أن يجرها في العربة.
ويتجلى وجع الغربة في الصفحة 61، ومحاولته الدخول في الوطن، وقال: سأعود لكن ليس بالضرورة جسداً، سأعود رغيفاً، وقسطاً دراسياً، وفاتورة كهرباء، ومصاريف أهل، يصعب علي اقتلاعهم مني.
وفي الصفحات 65-68، حدثنا عن أبرز أهداف البندقية وهو البحث عن المال، حدثنا عن ويلات الحرب، والسلاح المتفلت، وشريعة الغاب، ولم ينس كرتونة الإعاشة، وهي كرتونة الذل المستدام.
وفي الصفحة 120، صور لنا معاناة اللاجئين والخيم.
وفي الصفحة 213، تلا علينا ما أراد قوله لأبيه: ” كبرت يا أبي وفي عقلي اعتقاد أن كبري تسبب برحيلك…” “لقد علمتني الحياة يا أبي معنى أن أراك لأكثر من خمسين عاماً تلبس حذاءً ممزقاً، وثياباً رثة…”
وفي الصفحة 217، يطرق باب المحرمات، معلناً ثورته على النصوص والعمائم، وقال: “السماء لا تمطر ذهباً… نعم، إلا أنها تمطر عمائم تسبب قحطاً في العقول…”
ومسك الختام ماحملته الصفحة 252، رسالته لولده، رساله كانت بمثابة جردة حساب، وتبرئة ذمة، شرح فيها لولده أسباب هزيمته مع معارك الثراء، وهذه الرسالة حملت من الوجع والمعاناة والصدق ما تعجز عن وصفه الكلمات.
وفي ختام إبحاري على متن هذا الكتاب الممتع، لايسعني إلا تقديم الشكر للصديق عمر سعيد على تقديمه لنا هذه الوليمة الدسمة والمتنوعة، وسأقول لكل من تذوقها(عافيات أولصِن).
وسأسمح لنفسي بسؤال للصديق عمر سعيد، أما آن لحقيبة سفرك الطويل أن ترتاح؟
أما من نهاية لدرب جلجلتك التي بدأت مع براعم الطفولة ورافقتك إلى مشارف الكهولة؟
ولكنني أخاف إن إنتهت جلجلتك أن ينتهي معها إبداعك.
عمر سعيد دائماً تدهشنا، لك مني كل المحبة والتقدير.