بين البطريرك و”الحكيم”: تاريخ وحياد وسيادة ومشروع دولة!
كتب جورج حايك: لم يعجب كلام البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي عن رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع البعض وتحديداً اوساط التيار الوطني الحر، بعدما وصف جعجع بـ”الناسك والمخطط والمفكر”، ربما يكون الأمر طبيعياً أن يزعج هذا الكلام “التيار” ومسؤوليه، وخصوصاً على أبواب الانتخابات النيابية والرئاسية، لكن هذا الكلام لم يأت من العدم، انما له مسار طويل يتعلق بالثوابت المشتركة بين بكركي ومعراب، بل يعود إلى تقاطع أكثر من مرة في التاريخ الحديث بين الكنيسة المارونية و”القوات” حول القضية اللبنانية.
لا يعتبر مسؤولو “التيار” أن كلام البطريرك الراعي يعكس حقيقة رأيه بجعجع، ويؤكدون أنه لا يحب اسلوبه في التعاطي السياسي، ويجد ان خياراته لم تكن صائبة في السابق وكذلك اليوم، ويضعون هذا الكلام في إطار المجاملة لا أكثر ولا أقل.
لكن كثراً من المسيحيين يجدون ان تلاقي البطريركية المارونية و”القوات اللبنانية” أكثر من طبيعي، وعظات الراعي كل أحد تعبّر عن رؤية “القوات” وتوجهاتها السياسية ومقاربتها لمواضيع الساعة، وهذا التقاطع بين الكنيسة و”القوات” يعود إلى بداية الحرب اللبنانية وتحديداً إلى زمن المقاومة اللبنانية حين اندفعت الرهبانية اللبنانية المارونية بشخص رئيسها الأباتي شربل قسيس إلى احتضان ودعم المقاومة التي كانت متمثلة بأحزاب الجبهة اللبنانية عام 1975.
تَجرأ الأباتي القسيس والتزم كليًّا المقاومة غير عابئ بأي تحذير، وأيّده الرهبان والأساتذة التابعون لجامعة “الروح القدس”، وخصوصاً الأباتي بولس نعمان. تحوّلت الرهبانيّة اللبنانيّة في الكسليك خليّة فكريّة للمقاومة المسيحيّة – اللبنانيّة. أنشأت لجنة الدراسات والأبحاثِ برعاية الأباتي قسّيس من أجل وضع استراتيجيّة بعيدة المدى للبنان في ضوء التحوّلات التي طرأت. وصار التركيز للمرّة الأولى على مفهومِ التعدديّة الحضاريّة وحقّ تقرير المصير… ووضعت اللجنة مجموعة أبحاث حول المجتمع اللبنانيّ والدولة تُظهر الخلل في التركيبة اللبنانيّة وتقترح الخيارات البديلة. وفتح الأباتي القسيس أبواب الرهبانيّة بجامعتها ومدارسها وأديرتها للشعب اللبناني المهجَّر، لا سيّما بعد مجازر بلدة الدامور.
شارك الأباتي القسيس في تأليف جبهة وطنيّة مقاومة بعدما كان الأمر محصوراً بحزبي الكتائب اللبنانيّة والوطنيّين الأحرار. تأسسّت أوّل جبهة تحت إسم “جبهة الحرّية والإنسان” وعقدت إجتماعاتها في جامعة الكسليك.
حَرِص الشيخ بشير على أن يتّكل في مقاومته على الرهبانيّة اللبنانية فكانت ملاذه حين يختلف مع الأحزاب. فهذه كانت أحياناً تميل إلى التكيّف مع بعض المعطيات، فيما كان الشيخ بشير يفضّل رفضَ التسويات والإفادة من زخم المقاومة للتغيير الحقيقيّ والجذريّ. شكّلت الكسليك مُتنفَّسَه الفكّري ومرتع ضميره وواحة روحيّة كان يحتاج إليها. فالرئيس بشير الجميل كان مؤمناً ومواظباً على الصلاة.
وحين كانت تتفاقم الأحداث كان بشير يسرق الوقت ليلاً ويتوجّه إلى الكسليك ليجتمع مع الأباتيَّين القسيس ونعمان وأباء آخرين ويناقش معهم القضايا الوطنيّة وأُطر الحفاظ على الوجود المسيحيّ الذي كان مهدّداً. توطّدت هذه العلاقة بين الطرفين، وأصبح بشير يتنقّل بين حزب الكتائب والقوّات والكسليك، الحاضنة الروحيّة لمقاومته.
كان دور الأباتي القسيس، والرهبانيّة إستطراداً، مفيداً للجبهة اللبنانيّة والمقاومة اللبنانيّة، والحقيقة أن الرهبانيّة المارونيّة برئاسة الأباتيّين القسيس ونعمان لعبت دوراً تاريخيّاً بين سنتي 1975 و 1982. حَضنت بشير الجميل وساعدته في مسيرته ووفّرت له ظروفاً ساهمت في نجاحه. ولا أخفي سرّاً أن الكسليك كانت مركز العديد من اجتماعات بشير مع مسؤولين عرب ودوليّين. وأعطت الرهبانيّة توجيهات إلى إرساليّاتها في أوروبا وأفريقيا وأميركا لتشكّل حلقات دعم للمقاومة اللبنانيّة في تلك الدول. بكلمة، لم توفّر الرهبانيّة المارونية وسيلة لتثبيت المقاومة ونشر ثقافتها واحتضان قضيّتها.
التقاطع الثاني بين “القوات اللبنانية” والكنيسة المارونية تمثّل في العلاقة مع البطريرك مار نصر بطرس صفير، لكن هذه العلاقة لم تكن قبل العام 1994 كما كانت بعده، فقد راوحت ما بين هبوط وصعود بحسب العناوين والتطورات السياسية، وطبَعَها نوع من الحذر في ضوء اختلاف الرؤية حول عدد من القضايا. وعقب انتخاب البطريرك صفير، استمر التباين في ضوء موقف الكنيسة العام المتحفظ عن بعض المواضيع تبعاً لبعض التحولات العسكرية والسياسية داخل الاحزاب المسيحية وعلى الساحة المسيحية.
لكن تقارباً كبيراً وواضحاً حصل بين صفير والقوات، وتبلور اكثر فأكثر بعد نهاية الحرب واستشعار الخلل الكبير بين مستوى التوازن اللبناني وتطبيق الطائف والعلاقات اللبنانية – السورية. فالعلاقة مع البطريرك صفير بدأت منذ اليوم الاول للمحنة وسط كمّ من السلبيات، وكان لا بد من إعادة بناء العلاقة والثقة معه وتظهير الوجه الحقيقي للقوات. لقد ارادت “القوات” ان تضعه دائماً في جو ما يجري معها من ارتكابات وانتهاكات. في البدايات، كان من الصعب عليها ان تقنعه بوجهة نظرها وبأنها مظلومة في ظل المناخ العام الذي كان يحيط به. وكانت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني آنذاك حريصة على توفير ضابط كبير لينقل اليه اجواء المديرية للتعكير على “القوات”.
لكن العلاقة رست بسرعة ومشت في سبيلها ثقة متبادلة وكبيرة. كان المسؤولون القواتيون يقصدونه للتشاور في الاستحقاقات وفي كل مرة يتعرض اي قواتي او قواتية للتوقيف او التحقيق او التعذيب، كانوا دائماً يجدونه في أي ساعة، وكان دائماً يستقبلهم في القاعة الكبرى ويصغي اليهم ويعالج الأمور. كانوا ينقلون اليه معاناتهم وهمومهم والظروف القاسية التي يعيشها جعجع في زنزانته ومع جلاديه.
بعد خروج جعجع من المعتقل استمرت العلاقة الجيدة مع البطريرك صفير، ولا سيما ان “القوات” اعتبرته بطريرك الاستقلال الثاني وكان له دور اساسي في حصول الانسحاب السوري من لبنان وفي عقد مصالحة الجبل.
واللافت أن “القوات” التقت مع صفير حول مجمل العناوين السيادية لجهة استعادة الاستقلال والحريات والعدالة والشركة الحقيقية والمتوازنة ورفض السلاح غير الشرعي واستبدال الوصاية بوصاية أخرى. وأدى هذا المسار الى ترسيخ العلاقة بين صفير وجعجع، ما يؤكد ايضاً وايضاً عمق العلاقة بين البطريرك والقوات، وكذلك العاطفة العفوية التي يكنّها الجمهور القواتي لشخصه.
أما التقاطع الثالث فيتمثّل في تطور علاقة “القوات” مع البطريرك الراعي التي بات يُبنى عليها، وكانت دائماً مبنية على الاحترام ولو حصل بعض الاختلاف في البداية حول بعض المقاربات، لكن هذه العلاقة تطورت على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى عندما أطلق الراعي مشروع الحياد وطالب بتنظيم مؤتمر دولي من أجل لبنان، فتدفق القواتيون إلى بكركي حيث شاركوا في الحشد الشعبي الداعم لطروحات البطريرك، ثم توالت زيارات الوفود الرسميّة القواتية لزيارة البطريرك ، بل بدا هناك تنسيق وتكامل بين الراعي وجعجع.
المرحلة الثانية، أظهر البطريرك الراعي تعاطفاً كبيراً مع “القوات” ورئيسها إثر احداث الطيونة – عين الرمانة، وأجرى لقاءات سياسية مهمة جداً لتوفير شبكة امان لجعجع لمنع أي ملاحقة سياسية ضده عبر القضاء العسكري المسيّس المتأثر بسطوة “حزب الله”.
المرحلة الثالثة كانت منذ أيام قليلة عندما أعتبر الراعي أن حزب القوات اللبنانية معني بمسيرة قيام لبنان، وهو بالطليعة في مسيرة النضال ليستعيد لبنان هويته وجماله، مثنياً على مواقف جعجع عشية الانتخابات النيابية والرئاسية بل في سنة الاستحقاقات الدستورية الواعدة بالتغيير.
لا شك في أن علاقة البطريرك ورئيس القوات اللبنانية أصبحت أكثر نضجاً وتكاملاً، فالخطاب السيادي الذي ينطق به جعجع يرضي وجدان المسيحيين. ولا يمكن للراعي ان يكون ضد مصلحة المسيحيين ووجدانهم، ومن المتوقّع أن تقوى هذه العلاقة أكثر في سبيل مصلحة لبنان واستعادة قرار الدولة من “حزب الله”، وهما على خط المواجهة وفي دائرة الاستهداف، وبات واضحاً بالنسبة إلى الراعي أن خيارات جعجع لا بد من أن توصل لبنان إلى برّ الامان، وهذا ما يستحق الدعم والتنسيق مع جعجع “الناسك” في قمة معراب، والمفكّر والمخطط. ويرى البطريرك قيادات سياسية مسيحية لا تتمتع بمواصفات جعجع بل ربما تخطط للتبعيّة لمحور المقاومة والممانعة أكثر مما سيجرّ الويلات على لبنان. هؤلاء سيندفعون إلى مهاجمة سيد بكركي أكثر، وكلّما اقترب من “القوات”، لكن في النهاية “كلن عم يحكوا تركي إلا بكركي بتحكي صح”.