التوازن المفقود: ميقاتي يكرر تجاربه الفاشلة وأخطاء الحريري
لم يرتق لبنان حتى الآن إلى مستوى الأزمة مع دول الخليج. يحاول المسؤولون اللبنانيون التعاطي مع هذه الأزمة، مثلما اعتادوا التعاطي مع اللبنانيين، أي إطلاق الوعود وممارسة التسويفات.. والتهرب الدائم من مواجهة الإستحقاقات بجدية، والبحث عن صيغ ملتوية لكسب الوقت والمناورة.
وتلك أساليب لم تعد تنطلي على اللبنانيين، منذ الوعد بإصدار نتائج تحقيقات المرفأ خلال خمسة أيام، إلى الوعود العرقوبية حول البطاقة التمويلية وغيرها. الأسلوب نفسه يعتمده المسؤولون مع دول الخليج، وذلك للتهرب من مواجهة المشكلة بوضوح وشفافية، ووفق منطق المصالحة مع الذات. يظّن اللبنانيون أن المسألة تحلّ ببعض البيانات أو اللقاءات الخارجية. هنا، لا حاجة للنقاش في صوابية الموقف من عدمها. الخلاصة أن لبنان انتهج خياراً سياسياً يتعارض مع مصلحة دول الخليج، التي قررت اتخاذ موقف سياسي يتلاءم مع مصلحتها، ولن يصب في المصلحة اللبنانية. تلك هي المعادلة من دون الحاجة للانخراط في مسارات الانقسام اللبنانية بين مؤيد ومعارض، وفي حفلة جنون وتخوين وتخريب للعقول، تنطلق إما من حسابات مصلحية ضيقة، أو مشاريع كبيرة تشهدها المنطقة، أو من سياقات خطابية تعبّر عن أحقاد دفينة تجاه العرب، مطلوب ترسيخها في الوعي للبناني. الهدف هنا تقديم قراءة واقعية لبعض المسارات اللبنانية. ونظرة لأداء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي منذ بدأت الأزمة.
منذ “التسوية الرئاسية”
لا بد من التعاطي مع الموقف السعودي بمفعول رجعي، يبدأ منذ إبرام التسوية الرئاسية، وأزمة الرئيس سعد الحريري في الرياض. حينها استند الحريري على تحرك فرنسي أميركي، فعاد إلى لبنان وإلى إدارته السابقة للعملية السياسية على نحو يتنافى مع توجهات الرياض، ضمن حكومته، وجدد التسوية مع عون وحزب الله بعد الانتخابات النيابية، فدفع ثمن هذا الموقف ما بعد 17 تشرين. هنا لا مجال للنقاش في صوابية موقف الحريري، ولا داعي للدخول في سجالات إذا ما كان مطلوباً منه حينها الذهاب بالبلد إلى حرب أهلية، وكل هذه التقديرات الخاطئة. فما كان مطلوباً هو حسن الإدارة السياسية لاستعادة توازن سياسي مفقود، عرف وليد جنبلاط أن يكرسه، وهو أقلية صغيرة على بقعة جغرافية محاصرة ومطوقة في الجبل، فيما سعد الحريري الذي يفترض أن يكون صاحب الامتداد السنّي الواسع على جغرفيا البلد المترامية، وبما يمثل ويرمز لم يحقق شيئاً من التوازن. كانت السعودية تنظر إلى الحريري وكأنه يسلّم كل شيء لحزب الله وميشال عون. فيما الحريري ينظر إلى الوقائع على الأرض (إقليمياً ومحلياً) بما يشير إلى تراجع السعودية ومحورها مقابل تعزيز إيران لقبضتها، ولا يجد حاجة للدخول في مواجهة مع الحزب سيخسرها في لبنان، لا سيما بعد الخسارة في سوريا والحرب في اليمن، وبلا أفق لأي داعم خارجي.
ميقاتي وأخطاء الحريري
في تلك الفترة كان نجيب ميقاتي يراكم مواقفه على أخطاء سعد الحريري، يوجه الانتقادات له على خلفية تنازلات وتخليه عن صلاحيات رئاسة الحكومة. انتهز ميقاتي أخطاء الحريري بمسح سنوات من القطيعة مع الخليج بدأت في العام 2011، لحظة قبوله بالانقلاب على تسوية سين-سين وتشكيل حكومة القمصان السود. وصل الأمر بميقاتي إلى حد الذهاب مع رؤساء الحكومة السابقين فؤاد السنيورة وتمام سلام لشرح أخطاء الحريري للمسؤولين السعوديين وللملك سلمان بن عبد العزيز. عمل ميقاتي على تشغيل كل قنواته للوصول إلى رئاسة الحكومة. ولم يصل إلا بعد تقديم فروض الطاعة كاملة والاستعداد لتقديم التنازلات المطلوبة ليصبح هو رئيس الحكومة، فيلبي رغبة الفرنسيين ويحمي مصالحه في الخارج ويتجنب أي تهديد بالعقوبات، ويحرج الحريري الذي لم يتمكن من تشكيل الحكومة، ولا بأس من إعطاء رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، من الكهرباء إلى التعيينات والتشكيلات ومصير حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. ويرى آخرون أن ميقاتي يهتم بإقفال الملف القضائي الذي فتحته له القاضية غادة عون.
وقعت الأزمة مع دول الخليج، وسط مواقف واضحة لحزب الله، وبعض المسيحيين. فرئيس تيار المردة سليمان فرنجية اتخذ موقفاً واضحاً إلى جانب الحزب. رئيس الجمهورية ميشال عون حاول إرسال رسائل من دون أخذ موقف علني، مع حرصه على استراتيجية العلاقة مع حزب الله، والتي تتلاقى مع عمق العقل العوني الذي لا يبالي بالمزيد من التغرب عن العرب. أما إرسال رسائل إبراء الذمة من قرداحي وقبلها الضغط على شربل وهبي للاستقالة، فلم تكن سوى محاولة دفع سلفة على حساب سياسي تفصيلي يتعلق بمصحلة آنية.
فقط رئيس حزب القوات اللبنانية أخذ موقفاً واضحاً إلى جانب السعودية. في هذه المعادلة يغيب السنّة بشكل كامل، سعد الحريري يدعم ميقاتي ويغطيه، والسنيورة يعترض ولكن بلا صوت وبلا أثر وفعل.
الرهان على الفرنسيين والأميركيين
لا تجد السعودية طرفاً سنياً قادراً على اتخاذ موقف واضح يبنى عليه سياسياً، أو يؤسس للمستقبل، فيما السنّة يعتبرون أنفسهم متروكين بلا دعم خارجي. في هذا الوقت يعمل ميقاتي على التسويف ويحاول ابتزاز الجميع، يستند إلى علاقته الجيدة مع عون في سبيل تكوين موقف موحد. يلوح بالاستقالة بوجه حزب الله ويقدّم وعوداً لفؤاد السنيورة بأنه سيستقيل، وهو لا يريد أن يفعل ذلك، إنما فقط يريد كسب الوقت، منطلقاً من وجهة نظر أن الاستقالة ستؤدي إلى مزيد من التدهور السياسي والاقتصادي والمالي.
عند لحظة وقوع المشكلة، وبعدما تيقن ميقاتي من الإجراءات السعودية، حاول إيصال رسالة واضحة بأنه جاهز للاستقالة لكن الجواب جاءه بأنه قد تأخر. بحث ميقاتي عن موقف يبيعه وعن طرف يشتري فلم يجد. مع الفرنسيين سارع إلى التواصل للبحث عن مساعدة ومخرج للأزمة، فكرر خطأ سعد الحريري، واستمر في المراهنة على الفرنسيين والأميركيين، علماً أن الطرفين في أسوأ مراحل العلاقات الديبلوماسية مع السعودية، التي تستفز حكماً من هكذا تصرفات، ما سيدفعها إلى التصعيد أكثر. بحث ميقاتي عن صفقة في الداخل، عرض على حزب الله الاستقالة، استنجد بالبطريرك الماروني وبالرئيس نبيه بري، وكان جواب الحزب واضحاً بأنه لن يضحي بقرداحي. وإذا أراد ميقاتي الاستقالة فليفعل. تراجع الرجل وطلب من البطريرك الضغط على قرادحي فتمسك الأخير بموقفه الرافض.
كواليس غلاسكو
تواصل مع وليد جنبلاط لمساعدته مع نبيه برّي الذي قال إن وزراء أمل لن يستقيلوا من الحكومة، من دون امتلاك جواب واضح عن موقف وزراء حزب الله. طوال فترة وجود ميقاتي في غلاسكو كان يراهن على كسب الوقت وعلى مسعى فرنسي أميركي، في مقابل إرسال رسائل إلى رؤساء الحكومة السابقين، بأنه في حال لم يستقل قرداحي سيستقيل هو في أسرع وقت. كلمة الاستقالة غابت عن لقاءات ميقاتي بالرئيس الفرنسي الذي طلب منه المساعدة، ومع وزير الخارجية أنطوني بلينكن. إذ أن بيان ميقاتي أشار إلى الاستمرار بالعمل الحكومي وكأن شيئاً لم يكن. وهذا يستفز السعودية أكثر. صحيح أن ليس لدى ميقاتي أي حسابات سعودية أو عربية، ولا مصالح له هناك، وهو لا ينتظر موقفاً خليجياً داعماً له كزعيم للسنة. لذلك، لا يبدو مبالياً. وهو لا يعتبر نفسه أنه سيدفع الثمن، إنما بيئته والطرف الذي يمثله هو الذي سيدفع الثمن الأكبر على المدى الأبعد، كما كان الحال مع سعد الحريري سابقاً.
لجأ ميقاتي في سياسة التسويف أيضاً إلى حد المراهنة على دور مصري أو قطري، أيضاً في سبيل القول إنه يراهن على دور لدول عربية، ما يكسبه المزيد من الوقت. يكرر التجربة نفسها التي حصلت معه أيام ترؤسه للحكومة سنة 2012 بعد إغتيال وسام الحسن، دخل في سياسة التسويف لمدة خمسة أشهر، وكان مصير الحكومة بعدها السقوط.
في المقابل، ووسط الحديث عن المزيد من التصعيد السعودي تجاه لبنان ورفض كل الوساطات ما لم يتم تقديم أي تنازلات جدية، ستبقى الحسابات ناقصة، إن لم يتم التأسيس لمسار سياسي واضح مبني على خطّة استراتيجية تخرج من التفاصيل اليومية والعتب الدائم للبنانيين، الذين لم يتخذوا موقفاً واضحاً.. إلى بناء رؤية سياسية وبرنامج متكامل قادر على استعادة التعاون، وتعزيز فكرة تمسك لبنان بعروبته لا الاغتراب عنها.
المصدر: المدن